في الترجمة الاجتماعية

07 سبتمبر 2020
"مناظير المواجهة" لـ أبو زيدون حنوش
+ الخط -

من يتأمّل الفوضى التي تحكم السياق الثقافي العربي وعلاقاته بالسياقات الثقافية الأُخرى، سواء فيما يتعلّق بالأفكار التي يتم نقلها من السياقات الأُخرى أو الكتب التي تتمّ ترجمتها أو المدارس الأدبية والفنية التي يتم الانفتاح عليها، لن يتأخّر في الحُكم على سياقنا الثقافي بأنه يتحرّك وفقاً لمنطق التقليد وليس وفقاً لمنطق الواقع، فبدل أن نستورد الأفكار ونترجم الكتب لحاجة ماسة إليها في سياقنا، نُقدم على ترجمة ونقل ما تسوِّق له الموضة أو ما يسوّق له "الستربتيز" الإعلامي في الغرب.

هذا ما جعل الثقافة العربية مستعصية على الحداثة إلى يومنا، وما يجعلها ثقافة مستهلكة للتقاليد بشكل مَرضي، بل إن عقلها السلفي أو التقبلي سيحكم علاقتها بالثقافة الغربية أيضاً، فطبيعة العلاقة ستبقى تقبلية، تابعة أو استهلاكوية. ولما نفكّر في علاقاتنا الثقافية بالغرب، فإنّنا نحتكم أكثر إلى الأيديولوجيا، فنحن لم نؤسّس لمعرفة نقدية بطبيعة هذه العلاقة حتى اليوم، لم ندرس هذه العلاقة، لم نؤسّس لشيء من قبيل علم الغيرية، نحن أحوج إليه من غيرنا، وبلغة أُخرى: لقد ظللنا سجناء موقف استقطابي يتحرّك بين مفهومَي التغريب والأصالة، دون إدراك منّا لواقع أنّ التغريب أحياناً قد يكون أكثر أصالة، أو أنه قد يكون أحياناً مجرَّد ترجمة للموقف السلفي المنكفئ على ذاته، رغم لغته التي تبدو ظاهرياً حديثة أو مناصرة للحداثة. 

يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في "الشروط الاجتماعية للحركة الدولية للأفكار" أنّ أشكال التبادل الدولية للأفكار "تخضع لنوع من العوامل البنيوية المولّدة لسوء الفهم"، وهو يعني بذلك خصوصاً واقع "أن النصوص تنتقل في استقلال عن سياقاتها". وسينوّه في السياق نفسه بما قاله ماركس في "البيان الشيوعي" من أن "المفكّرين الألمان فهموا دائماً، وبطريقة سيّئة جدّاً، المفكّرين الفرنسيّين، لأنهم كانوا يتلقّون نصوصاً هي بنت ظروف سياسية على أنها نصوص خالصة، ويحوّلون الفاعل السياسي، الذي يمثّل أساس هذه النصوص، إلى ذات مفارقة".

سجناء موقف استقطابي يتحرّك بين مفهومَي التغريب والأصالة

وسيقدّم أدوارد سعيد مثالاً معبّراً عن أشكال التغيير والتحوير الذي تتعرّض له النظرية حين انتقالها من سياق ثقافي إلى آخر مختلف في نصّه الموسوم بـ "ترحال النظرية"، ونعني بذلك التحوير الذي ستعرفه مثلاً نظرية لوكاتش عن التشيّؤ كما صاغها في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، مع لوسيان غولدمان في كتابه "الإله المخفي"، وسيكتب سعيد موضّحاً: "وبينما نجد الوعي الطبقي لدى لوكاتش وعياً يتحدّى، لا بل يتمرّد حقّاً على النظام الرأسمالي، فإن النظرة المأساوية لدى غولدمان تجد تعبيرها التام، والمطلق، في أعمال باسكال وراسين". ويردف: "ومع ذلك، فالحقيقة هي أن تكييف غولدمان لآراء لوكاتش يسحب من النظرية دورها "العصياني"".

إنّ قدَر الأفكار أن تتغيّر وهي تعبر إلى الضفّة الأُخرى، كما تتغيّر أفكار الناس وتصوُّراتهم حين خروجهم للعيش في بيئة أُخرى، وسواء طلبوا ذلك أم لم يطلبوه، وقد يضطرّون للعيش على هامش المجتمع الجديد إن استمرّوا في الإيمان بدوغمائية بأفكارهم التي حملوها معهم من سياق المنشأ، وقد تتحوّل تلك الأفكار إلى موضوع لتندّر وسائل الإعلام الجماهيرية، وتزيد وضع أصحابها سوءاً وهامشية.

وفي الواقع، فإن كلمات ماركس عن المفكّرين الألمان عابرة للسياقات، فسوء الفهم هو سيّد الكلمة فيما يتعلّق بالحركة الدولية للأفكار، وبعدم حركتها أيضاً، ولكن لربما قد نحتاج في علاقتنا بالأفكار الأجنبية إلى ما يُسمّى بـ سوء الفهم أكثر منه إلى فهم يطلب أن يكون نسخة طبق الأصل فيسقط في الكاريكاتيرية. لقد تلقّينا أفكاراً غربية متعدّدة في سياقنا العربي بدون سياقها، وكلّما طلبنا التماهي معها كما هي في سياقها، كان الثمن الذي توجَّب دفعه هو الخروج من سياقنا، وبلغة أخرى، اغتربنا عن سياقنا ونبضه ولغته. فمن يتحدّث عن التغريب في الفكر العربي لم يحد عن الصواب، حتى وإن لم يستطع تقديم تعريف مقنع للتغريب، إذ ظلّ التغريب بالنسبة له مرتبطاً بالدفاع عن أفكار غربية. لكن هل يكفي هكذا تعريف؟

كلّما استعملنا الأفكار الغربية وعمدنا إلى تبيئتها من أجل مواجهة أسئلة الواقع وليس من أجل الدفاع عن مواقع أيديولوجية، إلا وأضحت هذه الأفكار أقرب إلى سياقنا من سياقها، بل وتحوّلت إلى أفكارنا الخاصة بنا. ولا يمكننا أن نتحدّث عن عملية تلقٍّ منتجة وخلّاقة ومتحرّرة في آن وغير متغرّبة، دون ما نسمّيه الترجمة الاجتماعية للفكر وللفكر الغربي خصوصاً، أو للفكر النقدي في الغرب. 

لا نترجم ما يحتاجه سياقنا بل ما تسوّق له الموضة

ما تتوجّب الإشارة إليه هنا، هو أن ما يسمّيه بورديو بسوء الفهم وينظر إليه نظرة سلبية، لا يتوجب علينا بالضرورة أن نفهمه بالطريقة نفسها. أجل إن سياق التلقّي يسيء فهم الأفكار التي يتلقّاها من سياق آخر، وماركس كان واضحاً في الحديث عن ذلك. لكن لربما تحتاج النصوص لسوء فهم لتعرف ولادة جديدة ولتدخل في استعمالات جديدة، فالترجمة الاجتماعية، ككل ترجمة، هي دوماً خائنة. دعوني أقدّم مثالاً هنا: كيف استُعملت التفكيكية في السياق العربي؟ لنأخذ مسألة الدين.. 

ستتوقف تفكيكية دريدا عند ما توقّف عنده النقد الحداثي للدين لا أكثر، وهي ترى أن الأديان التوحيدية ومنها الإسلام تؤسّس للأخواتية، أو منطق الأخوة. ما تخطئ السبيل إليه التفكيكية هنا، أو تفكيكية دريدا، هو أن الدين يؤسّس لأشكال أُخرى من العلاقات الإنسانية كالجوار مثلاً، والتي تقوم ضدّ فكرة الأخواتية. ويمكن العودة هنا إلى ما كتبه هرمان كوهين عن الجار في اليهودية، أو إلى النصّ القرآني نفسه الذي يعترف بحق الجار غير المسلم، حتى وإن كان الفقه سيأتي ليضع ذلك الجار في مرتبة أقلّ من مرتبة الجار المسلم.

لكن هل يعني هذا أن التفكيكية لاغية، بأننا لا نحتاجها في سياق مثل السياق العربي الذي يحكمه منطق الشبيه، طبعاً لا، ولكن لربما يتوجّب على التفكيكية في سياقنا أن تبدأ أوّلاً بتفكيك الخطاب القائم حول الإسلام في الشرق والغرب، وعلاقة التديُّن الإسلامي الحالي بواقع التخلّف. لقد كتب الخطيبي أن "التفكيكية نزع للطابع الاستعماري عن الفكر"، لكن تفكيكية عربية ستبدأ أوّل ما تبدأ بنزع هذا الطابع الاستعماري عن التفكيكية كما يتّضح في موقفها، الذي ظل حداثياً، من الإسلام.

يدافع بورديو في النص سابق الذكر عمّا يسمّيه "السياسة الواقعية للعقل"، ويعني بذلك "العمل على تطوير الشعور والمعرفة بقوانين اشتغال مختلف الحقول الوطنية، فتشويهات النصوص تصبح أكثر احتمالاً كلّما ازداد الجهل بالسياق الأصلي". لن يجادل أحد بصحة ما يقوله بورديو، ولكن هل يجب أن تتوقّف هذه السياسة الواقعية للعقل عند هذا الحد؟ أليس من الحاسم أن تدرك هذه السياسة الواقعية للعقل سياق التلقّي بشكل عميق وتحيط بأسئلته، وتحتكم إليها في عملية النقل والترجمة، أي بلغة أُخرى: إن معرفة بالسياق الأصلي وحدها، تكفي للإحاطة العلمية بتلك الأفكار الأجنبية، لكنها تظلّ معرفة ميتة أو خالصة كمعرفة الألمان بالفرنسيّين التي تحدّث عنها ماركس، ما لم تُحط بالشروط الاجتماعية المنتجة لحقل الاستقبال والتلقّي. إنّ فعل الترجمة يبدأ حين نكتشف النصوص الأصلية من خلال أسئلتنا المجتمعية. إننا نحتاج إلى معرفة مزدوجة أو إلى معرفة نقدية.


* كاتب وأستاذ فلسفة من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون