مثلما أحس أبناء المدينة بضيق العيش وضعف إمكانية تحقيق طموحاتهم واللارفاه في بيئتهم فعبروا الحدود، وجد أبناء الريف أن البراحات حولهم لا تلبي احتياجاتهم في العيش، بعد أن فقدوا أمنهم الغذائي والذاتي فهجروها. منهم من اتبع سلفه فعبر الحدود، ومنهم من بقي بالمدينة التي لم تشبه حياتها يوماً حياته، لكنه أُجبر على البقاء في بيوت كالجحور، وعلى هامش الحياة، إذ ماذا يفعل بعدما أحرق وراءه سفن العودة، أو أنها أُحرقت وأُغرقت تحت الأمواج العاتية للسياسات التنموية اللامتوازنة.
إنها التحولات الديموغرافية بكل ما تحمل من كارثية، فها هو الضجيج يعلو وأصابع الاتهام تشير إلى أن عقوداً من إهمال الريف جاءت بالملايين إلى كبريات المدن السودانية، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، ليتكدسوا فوق مخلفاتهم في ظل الغياب التام لخطط المعالجات.
ماذا يفعل الريفي إذا كانت بيئته الجديدة لا تفلح في التخلص من نفاياته مثلما كانت تلك، حيث يقوم شركاؤه بعمليات إعادة الاستخدام والتدوير للنفايات على قلتها، فالحيوانات والطيور والحشرات والكائنات الدقيقة تظل تعمل في همة ونشاط على تحويل المخلفات إلى غذاء جديد في سلسلة الغذاء الطبيعية. أما هنا فلا مكان لهؤلاء الشركاء، كما أن النفايات نفسها تنوعت وزاد حجمها، وغلبت عليها المواد البلاستيكية التي لا قبل لأي بيئة بالتخلص منها إلا بإعادة التصنيع، ذلك المجال الذي لم ندخله بكامل قدراتنا بعد.
يُفلح منتقدو الوضع البيئي المتردي في رصد الواقع دونما إسهام واضح في الحلول، ويُلقي البعض باللائمة على الحكومة، وقصور مؤسسات خدمات البيئة، لكأن المواطن ليس جزءاً من هذه الدائرة.
في أعقاب نجاح ثورة ديسمبر 2019، رفع مفجرو الثورة من الشباب والشابات شعارات البناء، وشمروا عن سواعدهم لإزالة التشوهات، بدءاً بأرتال النفايات في الطرقات، ووسط الميادين بالأحياء ووجد حراكهم الرضا من المواطنين، باستثناء أولئك الذين يرون في هذا التغيير حجراً على مصالحهم الذاتية، فأعملوا آلياتهم لإحباط المحاولات، ووضع العراقيل ضد استمرارية الفعل الإيجابي. وقد أحجمت المحليات عن القيام بدورها في توفير آليات نقل النفايات، في محاولة لزعزعة ثقة المواطن في ثورته، فعادت أرتال النفايات تملأ المكان، وانشغل الشباب في مواجهة مقاومة التغيير، ووقع المواطن في براثن التضييق المعيشي الذي ظلت تديره ذات القوى، مع تكثيف الآلة الإعلامية عبر مؤسسات تم بناؤها وتطويرها على مدى ثلاثة عقود حراسة لسلطة العهد السابق.
للدكتور العالم محمد عبدالله الريح مأربه في ما أضافه على المقولة المعروفة "العقل السليم في الجسم السليم... في البيئة السليمة"، فهل نحظى على مستوى وضع السياسات بالتفاتة حقيقية نحو بيئتنا مثلما فعل الروانديون وهم يقدمون لنا في كل يوم مثلاً في التطور والنمو المرتبطَين بشكل وثيق بالبيئة؟
*متخصص في شؤون البيئة