10 اغسطس 2017
في اشتباك الهويّة
كنت من الذين يكتبون. الآن، حتى الكتابة تبدو، وكأنها بلدٌ يريد هجري. أصحو على بردٍ قارس في الخارج. أرمي السلام على عاملة النظافة، تُفاجَأ بأنّ أحداً قد ألقى السلام عليها، في هذا المبنى الـ"فانسي". هي لا تعلم بأنّي زائرة، وبأنّي لاجئة. السماء ترمي نُتف الثلج باختلاس، علّي لا ألاحظ.
تصلني رسالة في البريد، بأنّ التأمين الصحي الذي يغطّيني قد توقّف. تجلسُ الرسالة مفتوحةً على السرير لأيام. فماذا عساي أن أفعل بهكذا خبر؟ لو كنت من المدخنين لدخنت، وتأملت الرسالة بينما ألعن العالم، وأنا أنفث دخان لا مبالاتي في الهواء. لكني لا أدخّن، لذلك، أجلس بجانب الرسالة المفتوحة، وأبدو كالحمقاء بينما أفكر في كل المدن التي تصدر الضجيج بداخلي.
أفكر في بيروت، فهذه عادتي، عادة البدو، فأنا بدوية رحالة، لكن بقلب مزارع محلي، مما يفسر هذا العذاب المستمر الحقير. لا أقوى على البقاء في أي مكان لفترة طويلة، لكني كلما ذهبت، أفتقد الأمكنة كأنّي لم أعرف غيرها، كأنّي ولدت من رحم تربتها، ونموتُ من خيرات أشجارها. بيروت، كنت أستطيع تحمّل غربتي في كل مكان، لم يكن شعوراً سهلاً، لكنه كان قابلاً للتحمل، هذه هي قوة الحقيقة والمنطق، فأنا فعلاً غريبة.
لكني لم أقدر على تحمل شعوري بالغربة في سورية. لم أستطع التنفس مع معرفتي بأني أرفض رحم أمي وهو يرفضني. كيف لي أن أولد طفلاً كاملاً إن لم ترعاني سورية؟ إن لم تغذيني هذه البلاد كما المشيمة؟ رحلنا أطفالاً عاجزين ضعفاء. رحلت في السابعة عشرة من العمر، وكأني ولدت في الشهر السابع من الحمل. احتجت الكثير من الأوكسجين السياسي والحرية الجندرية والإنسانية. احتجت الكثير من الغذاء الأساسي لنموي الفكري.
كنت كلما أحسست بجانبي اللبناني، تخزني الحقيقة، فلا أوراق ثبوتية لي هنا في لبنان، مع أن الرحم الذي كوَّنني ينتمي لامرأة من الجبل اللبناني، لكنّه مجرد رحم، عضو أنثوي لا يُعوّل عليه في هذه البقعة من الأرض. كنت كلما غضبت من لبنان، قلت بحنق "أصلاً أحمد الله أن أمي لا تقدر على توريثي جنسيتها. لا أريد بلداً لا يريدني". ثم كنت أغصُّ عند آخر تلك الجملة.
كنت أتساءل ببراءة طفولية: "هل كانت سورية تريدني؟ من هي سورية؟ فسورية الأسد حتماً لا تريدني".
"سوري كلب! سوري حرامي!" هذا ما وصف زوج خالتي المقيت شابّاً أوصلني بعد ما خرجت معه في موعد بيروتي. كان أقربائي اللبنانيون لا يراعون وجودي عندما يتكلمون عن العمال السوريين السمر بعنصرية مقيتة، تليها شفقة كريهة ومصطنعة. كانوا يمدحون أبي لأنه كان يعامل أمي على أنها إنسانة مثله أيضاً. كانوا لا يخبّئون غيرتهم من حقيقة أن أبي لا يخون أمي، كانوا يحسدونها على زوجها الذي إن سمع شكاويهن عن عنف أزواجهن لهن، يجلب كأساً من الماء وينصت بكامل قلبه. أبي لم يولد أسمر بالضرورة، لكنه صار أسمر ككل السوريين.
أبي كان أسمر وسورياً، فهل كانوا يعون ذلك؟
"هي مرتي تاج راسي"، "مرتي راحت، والله عندي مرة بكل حلب ما في متلا"، من أقوال بعض الأزواج السوريين السمر.
كنت أحاول أن أتغاضى عن أن سحنتي البيضاء كانت تشفع لي في لبنان. وكنت أتقصُّد التفوُّه باللهجة اللبنانية لفترة، لسببين، الأول، هو لجس نبض الكراهية في الغرفة، لكن تفوهي بتلك اللهجة لم يشفع لي من الكلمات العنصرية التي كانت موجهة لسوريّتي، مع أنها لم تبدُ كذلك. والثاني، كان نابعاً من الخوف من التحرُّش، كنت أظن، حينها، أن هناك احتمالاً أكبر في خطفي أو اغتصابي إن كنت لاجئة سورية. لكني، بعدما صببت غضبي على متحرش وقح في إحدى "سرافيس الكولا"، اكتشفت سريعاً أن هذا الاحتمال لا يقل كثيراً إن كنت لبنانية أم سوريّة لطالما أني أنثى.
أن تكون نصف سوريّ، ونصف لبناني، معناه أن تعيش تجربة الطفل الذي ينفصل والداه، وكلاهما يكرهك، لأن كل نصف فيك، يذكّر بالنصف الآخر. مع فرق أنهما لا يتحاربان على الوصاية، بل بالعكس، يريدان التخلّص منك بأيّ شكلٍ من الأشكال. ويريدانك أن تكبر بسرعة وتسكن خارجاً. لقد كبرت بسرعة هائلة، لكني ما زلت بحاجة الكثير من الأوكسجين لتكتمل رئتاي، فقد تعلمت بأنها كانت مجرد صدفة أنني أخذت نفساً عميقاً لأصرخ بالحرية من أعماق كينونتي ذات مظاهرة، لكنني في الحقيقة ما زلت في حاضنة الحياة، مُتعبة ولا أقوى على بناء الجسد الذي سيحملني إلى المستقبل. المستقبل الذي وُلدتُ مبكراً من أجله.