في "تتن خان"

22 نوفمبر 2014
من حدود إلى حدود (Getty)
+ الخط -
بمناسبة انتهاء الدورة التدريبية التي خضع لها بعض الناشطين السوريين في مدينة غازي عنتاب التركية، وقد جمعتني ببعضهم صداقة قديمة عبر الكتابة والأدب من دون أن نلتقي. صداقة جمّد المنفى مكانها وفتحت الهجرة السورية، أو التغريبة السورية، أبواب اللقاءات التي كانت مستحيلة. بمناسبة انتهاء الدورة واقتراب موعد مغادرة الكثيرين للمدينة، أعددنا لسهرة وداعيّة في ذلك الفندق الفخم الذي تنفق عليه مؤسسات تملك الكثير من المال، فتجحظ عيون الشباب القادمين من مدن وقرى وطرقات مليئة بالجثث والفقر والحرمان. وعلى الرغم من قصص الموت والتفجيرات، قرّرنا أن نسهر، أن نغني، وندخن السجائر، طمعاً ببعض النسيان وبيع المزاج الرديء، وافتعال الضحك.

مضى على ذلك عام كامل. كنا على حق، عندما قرّرنا أن نسهر ونجتمع. لأنّ قدر المواطن السوري الآن هو الترحال المتكرر. على أي سوري يلتقي بسوري آخر، أن يتشبث بلحظات اللقاء. "اليوم هون، بكرا الله بيعلم". حيث لم يعد من تلك المجموعة الكبيرة التي اجتمعت في تلك الليلة، سوى القليل. وصار أمل اللقاء من جديد، حلما صعب المنال.

حين كانوا في سورية، وكنت في فرنسا، لم يكن بإمكانهم مغادرة البلاد لأنّ أغلبهم مُنعوا من السفر لظروف عديدة وأهمّها طبعاً سياسيّة. وكنت شبه محرومة من العودة. اليوم، وهم في بلاد اللجوء "ألمانيا، النمسا، إنكلترا، فرنسا وغيرها..." لا يحق لهم السفر طالما لم يحصلوا بعد على أوراق الإقامة.

في مدينة غازي عنتاب اجتمعنا كحلم عابر، ثم تناثرنا من جديد، في أصقاع الأرض. كما لو أنّه لم يعد للمواطن السوري إلاّ فكرة الرحيل.

أغلبهم أكراد، وأغلبهم لا يملكون وثائق سفر، قدموا إلى تركيا عبر المهرّبين، وغادروها كذلك عبر مهربين آخرين. مهرّبون يشتغلون على كافة الجهات، يمدّهم السوريون بالثراء، السوريون العاجزون عن البقاء، والعاجزون عن الرحيل، ينقذهم المهربون.

أغلبهم ممنوع من السفر في سورية، نغني ونضحك في بلاد الآخرين، نبتلع غصّة البلاد هناك. تلك التي لم تعد لنا، وصرنا لاجئين، منبوذين، مطرودين. لا تريدنا البلاد التي وُلدنا فيها، ولا تلك التي نذهب إليها عنوة، عبر المهرّبين.

في "تتن خان" أي خان التبغ، التقينا، احتسينا الشاي التركي، حيث يخلطون الشاي المكثّف المعدّ في إناء، مع الماء الساخن المنفصل في إناء آخر. جلسنا على السجادات الملوّنة على الأرض، وأسندنا ظهورنا إلى مخدات كبيرة ملونة. خلعنا أحذيتنا كأننا داخلون مسجداً لا مقهى، وضحكنا كثيراً. ذلك الضحك الذي يفهمه ويمارسه بتواطؤ خاص، المهدّدون بالرحيل.
في خان التتن، رحنا ندخن سجائر اللف، بورق الشام الذي حصلنا عليه هناك، في تركيا، عبر باعة سوريين، مدّعين أنّ اللف أمتع من الجاهز، وكنا نقصد، أرخص.

بعد سنة على الغياب، ذهبت إلى "تتن خان"، التقيت بسوريين جدد، غير أولئك السوريين. تعرّفت على أسماء جديدة، يعدّون بدورهم أوراق الرحيل. تحولت أنا و"تتن خان" إلى محطة تلتقي العابرين، حيث لم يعد الصديق السوري ثابتاً في حياة الآخرين، لأنّه عالق في الذهاب. الذهاب إلى المجهول. يختار وجهته القادمة للرحيل، محدّثاً حياته وعلاقاته وأماكن نومه وأماكن طعامه، لأنّ البيت صار حلماً صعب المنال.

من حدود إلى حدود، من بلد إلى بلد، نبصم أوراق الدخول، وننتظر كالمساجين أرقام التسجيل وملفات تعلو ملفات سابقة في مكاتب الهجرة واللجوء. وفي المكان الذي نحطّ فيه، نتحدث مع أصحاب البارحة، والزوجات والأولاد عبر "السكايب" بصوت منفخض غالباً، خشية مضايقة لاجئين آخرين، لا يفهمون لغتنا، يشاركوننا السكن، ويطّلعون على أسرارنا. نحن أشباه المساجين، في بيوت مخصصة للغرباء واللاجئين، إذ لم يعد للسوري سوى اللجوء.
المساهمون