عرض فيلم "أغنية على الممر" قبل سنة من حرب أكتوبر 1973. كان الفيلم في الأصل مسرحية للكاتب علي سالم، وتم تحويلها إلى فيلم عن طريق السيناريست مصطفى محرم، وشارك في بطولته محمود مرسي ومحمود ياسين وصلاح قابيل وغيرهم.
رغم أن الفيلم لم يلق نجاحاً وقت عرضه، خاصَّة أمام فيلم مثل "خلي بالك من زوزو" الذي عرض في نفس التوقيت. والسبب، ربما، هو قصته المأساوية التي تنتهي باستشهاد الأبطال، في مقابل القصة الخفيفة والمسلية لـ"خلي بالك من زوزو".
ورغم أن السينما في تلك الفترة قدمت عدة أفلام عن النكسة بشكل أكثر حرية وجرأة ومكاشفة مثل "الاختيار" و"زوجتي والكلب" و"الخوف" و"ثرثرة فوق النيل"، إلا أن ما ميز فيلم "أغنية على الممر"، أنه ينتمي لنوعية الأفلام الحربية، إذْ تدور أحداثه في أرض المعركة، لكنه بعيد عن أجواء القيادة والدولة وأسباب الهزيمة العسكرية.
لا مشهد في الفيلم من داخل الإدارة العسكرية، لا مشهد انتصار، ولو وقتيا، لكن الأمل واضح رغم كل التطورات. الرابط الهام في أحداث الفيلم، وفي روح أبطاله، كان الغناء، الغناء الصادر من القلب وللقلب، الغناء المختلِط بالدم والناس البسطاء، فكانت أغنية "تعيشي يا ضحكة مصر".
الأغنية كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ولحّنها حسن نشأت. الأبنودي من أقرب شعراء الأغنية للفلكلور المصري، الفلكلور بشكله الفج من دون أي تنقيح أو تعديل. إذ استطاع أن يدمج بين كلماته والتراث، من دون أن يشعر المستمِع بأي اختلاف. فعل ذلك، على سبيل المثال، في أغنية "بيبا" من فيلم "عرق البلح"، فعل ذلك أيضاً في أغان استهل مطلعها من الفلكلور مثل أغنية "مال عليه مال" لفايزة أحمد، أو "روح يا نوم من عين حبيبي" لنجاة الصغيرة.
قبل الأغنية، جاء مشهدٌ لغناء العمال، غناءٌ غير خاضع لأيّ نظريات موسيقيّة، غناء جماعي مع تقطيع للكلمات بشكل غريب، كي يتماشى مع الإيقاع. ثم يأتي اللحن بشكل منفرد عن طريق ملحنه المجند حمدي صفارة (أحمد برعي)، ليبدأ في غناء المقطع الأول فقط. اللحن لم يكتمل بعد، إذ تستمع له من دون أيّ تدخّل موسيقي، بل إنَّ الحالة تصنع الموسيقى، لتبدأ في معرفة الأغنية التي تقول: "أبكي.. أنزف.. أموت وتعيشي يا ضحكة مصر وتعيش يا نيل يا طيب وتعيش يا نسيم العصر وتعيش يا قمر المغرب وتعيش يا شجر التوت".
عند سماع الأغنية للمرة الثانية، نسمعها على شكل غناءٍ جماعي، كل الأبطال يغنّون مع بعضهم. الغناء هنا، كان حمايةً من تهديدات العدو، وإعلان عدم الاستسلام. نحن هنا لنموت فداءً للوطن. الكلمات أيضاً تؤكد فكرة أننا بشرٌ ضعفاء، سنبكي خوفاً، وننزف من الجراح، ونصل للموت، ولكن لن نستسلم، حتى يأتي صوت المجند منير: "هو ده وقت غنا؟ هنهزمهم بالغنا؟"، لكن لا أحد يرد عليه.
سرد لكلمات كثيرة، في تأكيد على فكرة الفولكلور والبساطة والشمولية في التعبير عن الجميع من أجل النصر، كل الفئات مجتمعة لأجل النصر. أغنيةٌ صُنِعَت حقًا في الخندق، صنعت في تلك الظروف. هكذا خلق الأبنودي وحسن نشأت هذه التحفة الفنية.
من الغريب أننا لم نستمع للأغنية بشكل كامل، نتحرك بين مقاطع منها بين أحداث الفيلم، حتى إن ملحّنها المجند حمدي كان خائفاً أن يستشهد قبل أن يوصل اللحن للناس. إذْ يتخيل اللحن بصوت العمال، نفس العمال الذين كانوا في بداية الفيلم، مرة ثانية في تأكيد على فكرة الفولكلور والإيقاع الخارج من نبض العمل والحياة، لا من فرقة أو شيء منظم ومدروس.
قبل استشهاد المجند حمدي، نستمع له وهو يدندن جزءاً جديداً، جزءاً لم ير النور، إذْ يقول: "بلدي يا قبلة أولادي، اضحكي وأنا في الساعة دي، أموت مرتاح يا بلادي، ويقولوا عشقها موت". الواضح في هذا الجزء، هو محاولات التخلّي عن فكرة الموت والاستشهاد بالغناء لها. حقا نحن ضعفاء ونبكي وننزف ونموت، كان ذلك الجزء يؤكد واقعية القصة والحالة.
نحن أمام أغنية غير مكتملة، ربما تكتمل بعد الانتصار وربما لا، لكن تظل راسخة في أذهاننا.