لا يحتاج "الفيسبوكي" المشرقي إلى مناسبة رسمية أو حدث استثنائي كي يتذكّر فيروز، فمن النادر ألا يجد يومياً وهو يتصفّح موقع التواصل الاجتماعي هذا أغنية أو تلك، أو صورة لها أو عملاً غرافيكياً قد ذيّله أحدهم ببيت شعرٍ من أغانيها أو ربما مقطع كامل منها.
فالسيدة فيروز تقليدياً، كانت وما زالت شريكة قهوته الصباحية وأول خيوط شمس نهاره، ولكن ما استجد في الأمر هو ذلك التعبير المباشر على الملأ وإمكانية اختياره الأغاني والصور التي تحلو له ليشارك بها أصدقاءه.
وقد كانت ذكرى ميلادها الثانية والثمانين التي مرّت قبل أسبوع مناسبة إضافية لجمهور الموقع كي يحتفي بها، فيكتب كثيرون على صفحاتهم الشخصية عنها وإليها، كلمات تعبّر عن محبتهم وتقديرهم، متمنّين لها الصحة والعمر المديد... فهي الفيروز، جارة القمر، الأرزة، سفيرتنا إلى النجوم.
هذا الاهتمام الشعبي "الفيسبوكي" بالسيدة فيروز قد تطوّر لدى بعضهم، فأفرد معجبون منهم صفحات خاصة بها، يجمعون فيها ما يقع تحت أيديهم مما يخصها. وأغلب هذه الصفحات هي صفحات متشابهة لمحبّين ومؤرشفين هواة، مكررة المحتوى لا تميّز كبيراً فيها.
وما يمكن استثناؤه من هذه الصفحات على سبيل المثال هي مجموعة أو "غروب" بعنوان "أسطوانات فيروز". لكن الأهم برأينا من هذه الصفحات هي صفحة لا تهتم بفيروز فقط، وإن كانت هي عمادها، بل بكل ما يتعلق بنتاج الأخوين رحباني كما يشير عنوانها "الأخوين رحباني عاصي ومنصور ونتاجهم المنسي".
ويعود تأسيس هذه الصفحة إلى نهاية سنة 2015 وهي أيضاً مبادرة من صاحب فكرة الصفحة المذكورة أعلاه، محمود الزيباوي، الباحث في أيقونات الشرق، الدينية والدنيوية، وبمشاركة مهتمّين ومؤرشفين يمكن أن نصفهم بالمخلصين للإرث الرحباني وفيروزه.
يصف الزيباوي صفحته هذه بأنها تعنى بالتعريف بهذا النتاج المنسي، "كما تسعى بالدرجة الأولى إلى توثيقه وتأريخه وحفظه قبل أن يضيع ويأكله الزمان". تنطلق هذه الصفحة تاريخياً من سنة 1948 حين وُظّف عاصي في الإذاعة اللبنانية كعازف على آلة الكمان وملحّن، قبل أن يأتي بأخيه منصور بعد بضعة سنوات مؤسساً شراكة "الأخوين رحباني"، وتنتهي فترة التوثيق هذه سنة 1972.
ولكن المتابع للصفحة يجد أنها تعدت في بعض المنشورات هذا التاريخ الفيصل لتمتد حتى رحيل عاصي سنة 1986 وأحياناً حتى ما بعد ذلك التاريخ. ففي ذاك العام، (1972)، وغداة مسرحية "ناطورة المفاتيح"، غاب عاصي عن مشاركة أخيه في العمل بسبب المرض، ولكن "المنصور النبيل" قد حرص على إبقاء اسم "الأخوين رحباني" كصاحب للإنتاج الفني الذي تلاها، كمسرحية "المحطة" التي عُرضت سنة 1973 والتي يعترف عاصي في حديث صحافي أنه لم يشارك بها: "أنا لا دخل لي فيها، إنها من شغل الأخوين منصور وإلياس".
وتشير الصفحة إلى ظهور اسم فيروز كمطربة في صيف سنة 1950 حين قدّمها حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى في الإذاعة لعاصي الذي لم يعجب حينها كثيراً بأدائها كما تشير الروايات المأخوذة عن مقالات مختلفة.
للأسف، نظام صفحات الموقع لا تتيح لنا التبويب كما في المواقع العادية أو الاحتفاظ بتسلسل معين لما ينشر، الأمر الذي يجعل عملية البحث عن المعلومة أو العودة إليها عملية مرهقة، لا سيما أن بعض هذه المعلومات موجودة في تعليقات المشتركين، ومنهم من هو من العائلة الرحبانية كأسامة نجل منصور، فتجد معلومة هنا وتصويباً أو نفياً أو استزادة لها في مكان آخر. لكن هذا لا يمنع من متعة التجوال ما بين المشاركات والتعليقات والمماحكات أحياناً وتضارب وجهات النظر...
نغوص في الصفحة، لنكتشف أسماء مطربي الرحابنة الذين تقاسموا معها الاهتمام في البدايات، ككارم محمود ونجاح سلام أو أسماء غير معروفة شعبياً كشيراز، كما نكتشف أن هناك أعمالاً من البدايات ذُكر اسمها في سجلات الإذاعات التي سجّلا لها، كإذاعة دمشق مثلاً، لكنها ضاعت أو بقيت مجهولة إلى يومنا هذا. كما يتم الحديث في الصفحة عن النشاطات والأعمال المسرحية التي لم تكن فيروز بطلتها كمسرحية "دواليب الهوا" لصباح مثلاً.
يكتشف المتابع "غير المختص" أيضاً أنه في البدايات لم تكن جميع المؤلفات تُذكر تحت اسم الأخوين، فأغنية "لملمت ذكرى" على سبيل المثال نزلت على غلاف أسطوانة تعود إلى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، باسم منصور شعراً وألحاناً.
وبالمناسبة، لقد حيكت حول هذه الأغنية حكاية لا أصل لها، انتشرت للأسف بقوة على موقع "فيسبوك"، مفادها أن رجل دين لبناني يدعى محمد جواد بدر الدين قد كتبها، وبالعودة إلى تاريخ ميلاد هذا الأخير وتاريخ تقديم هذه الأغنية لأول مرة وكان سنة 1953، نجد أن بدر الدين قد عشق ونظم القصيدة وهو في الرابعة من عمره.
نسوق هذا المثال لنشير إلى أهمية مساهمة هذه الصفحة في وضع الأمور في نصابها ودحض بعض الأقاويل والافتراءات، لمن أراد البحث في تاريخ الرحابنة. كما نعتقد أنها نواة لعمل توثيقي للتجربة الرحبانية رصين وأكمل مما سبقه، نتمنى أن يخرج إلى النور يوماً.
لكن جدّية هذه الصفحة لم تمنع من مشاركة بعض الطرف الظريفة، فنكتشف أن فيروز، التي كانت نادراً ما تتكلم، تمتلك حساً ساخراً وأحياناً لاذعاً، لا تتردّد مثلاً في انتقاد العائلة الرحبانية حتى من خلال ردودها الصحافية كأن تقول لمن سألها عن الملحن الذي تستريح له غير الرحباني: "ومن قال لك أنني أستريح للرحباني؟!".
* فنان تشكيلي سوري