فيرناندو بيسوا.. محاولات أدبية لتفكيك ألغازه

19 نوفمبر 2018
("بيسوا ضائع في لشبونة"، لوحة لـ نتاليا غروميشو)
+ الخط -

يقترن اسم فرناندو بيسوا بوطنه وبلغته الأم، البرتغالية، حتّى بدا للبعض أنه، ونظراً لهيمنته على اللغة والآداب البرتغالية، يستحقّ "جائزة نوبل للآداب" بعد الوفاة، وهو ما لم يحصل في تاريخ الجائزة. تواصَل ذلك إلى حصول مواطنه جوزيه ساراماغو (1922 - 2010) عليها سنة 1998، ممّا جعل منه الكاتب اللوزوفوني (أي الناطق بالبرتغالية) الوحيد المتحصّل عليها.

كتب ساراماغو الرواية والشعر والمسرح، وله قراءات نقدية ومحاولات جادّة في الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا. لكن، بالرغم من أهمية كتاباته ثم حصوله على نوبل، يبقى بيسوا رمز الأدب واللغة البرتغاليَّين، وهو ما يجعل منه الشجرة التي تغطّي الغابة.

لهذا السبب، ربما، أصدر ساراماغو عام 1984 رواية "سنة وفاة ريكاردو ريس"، وهو نص دسم في أكثر من 400 صفحة، بطلُه ريكاردو ريس الذي يحمل واحداً من أسماء بيسوا المستعارة الكثيرة. لكن لهذه الشخصية الخيالية حضورٌ فعلي؛ فهي تُمضي وتُصدر أعمالاً شعرية مهمّة. وبقلم ساراماغو، تصير الشخصيةَ المحورية لعمل قصصّي متشعّب تدور أحداثه في العاصمة لشبونة على مرمى من نهر "التاج" الذي يبعث، بأضوائه المتوهّجة، في القصّة حكايات تجعل من الرواية متاهة مجنونةً، ككتابة بيسوا وحياة ريس.

يتماهى هذا الجنون مع سيرة بيسوا الذي وُلد في 13 حزيران/يونيو 1888 في لشبونة وعاش فيها حياة موظّف في مكتب قاتم. لكن في 8 آذار/مارس 1914، عاش هذا الشاعر المثالي المنطوي على نفسه ولادةَ شخصيّة المعلّم ألبيرتو كاييرو الوثنية، ومعه تلميذان: ريكاردو ريس الرواقي الأبيقوري، وألفارو دي كمبوس الذي يُنظّر للفلسفة "الإحساسية" (sensationnisme)، كما برزت شخصية الكاتب برناردو سواراس الذي لا ينفك عن كتابة يوميّاته "غير المرتاحة" أو "اللامطمئنّة" بأسلوب نثري غير مسبوق، في حين يقوم بيسوا بتجريب طرق عديدة تذهب من التصوّف و"الإستريسسم" (ésotérisme) إلى الإباحية والجنسانية (érotisme).

حتى تاريخ رحيله في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1935، جمع بيسوا مئات النصوص والمخطوطات التي عثر عليها في حقيبة كبيرة تحت أكثر من سبعين اسماً مستعاراً، تلك الشذرات من عمل أدبي جبّار مركّب وغير كامل تجعل من صاحبها ومن حياته شخصيّةً فريدة من نوعها. وبسبب ذلك، ربما جرت استعادة بسوا كشخصية أدبية أكثر من مرّة، من خلال رواية ساراماغو المذكورة، وكذلك في نص قصصي بعنوان "آخر ثلاثة أيّام لفرناندو بيسوا، هذيان" لمترجمه إلى الإيطالية، الروائي والجامعي أنطونيو طابوكي. هكذا، يتحوّل الشاعر البرتغالي إلى شخصية خيالية وبطل روائي كامل القوام، وهذا أمر عجيب في الأدب العالمي؛ لأننا نشهد هنا تحوّلاً في المنظومات النصية. قبل ذلك، كانت هذه الحالة حكراً على الأبطال كـ دون كيشوت لـ سارفنتس، أو أبطال الأناشيد والملحمات شأن أوديسيوس أو غلغامش. لكن أن يصير كاتب وشاعرٌ شخصيةً أدبية، فهي من سمات الحداثة الأدبية.

هذه الحداثة الأدبية تتجلّى في الكتابين في محاولة تفكيك هذا الكاتب/ الشخصية/ اللغز. ينطلق ساراماغو في روايته بثلاثة شواهد: الأوّل لـ ريكاردو ريس: "عاقل هو من يكتفي بالفرجة على العالم"، والثاني لـ برناردو سواراس: "اختيار عدم الفعل كان، دائماً، شاغل حياتي وهاجسها"، والثالث لـ بيسوا ذاته: "إذا قيل لي إنَّ من العبث التحدّث، على هذا النحو، عن أحد لم يوجَد قط، أردّ بأن ليس لدي أي دليل على أنّ لشبونة، هي أيضاً، قد وُجدت أو على كوني، أنا الذي أكتب أو أيّ شيء آخر، في أيّ مكان كان، قد وُجدنا".

قراءة هذه الشواهد الثلاثة تخلق شيئاً ما، مثل المرايا التي تعكس أضواء متكاملة من شأنها أن تفتح أعيننا على "حقيقة" كتابة بيسوا التي، كما يبدو من خلال رواية ساراماغو، تطمح إلى أن تكون وحدها "أدباً كاملاً"، زيادة على ذلك تتمتّع الشخصيات التي كَتَب تحت أسمائها كتباً ونصوصاً عدّة صدرت في شكل كتيّبات وفي مجلّات بوجود فعلي، أي بـ بيوغرافيات حقيقية مع تواريخ ولادة ومهن ووجهات نظر وفكر وحياة حقيقية. سمّى بيسوا "آخرِيه" بالهيتيرونيمات" (hétéronymes)، أي بالأسماء الأخرى أو ربما بالأبدال. هل هو تحيين لما سمّاه الشاعر الفرنسي آرتور رامبو بالغيرية مع عبارة "أنا واحد آخر غيري"، كما نجد ذلك في إحدى قصائد ريكاردو ريس الوثنية:

"كثرٌ هم الذين يعيشون فينا
لو فكّرتُ، لو أحسستُ، أجهلُ
من هو الذي يفكّرُ، يحسُّ
أنا فقط المكانُ
حيث يقع التفكير والإحساس".

هو مشروع فكري كامل يتبلور أمامنا نصّاً بعد نصّ عبر أسماء مستعارة كثيرة. وُلد هؤلاء الآخرون، كما يذكر أنطونيو طابوكي في آخر كتابه "آخر ثلاثة أيّام لفرناندو بيسوا، هذيان"، أبطالاً حسب أهميّتهم وأعمالهم وعلاقتهم بالبطل المحوري، وهم: بيسوا نفسه، وألفارو دي كمبوس، وألبيرتو كاييرو، وريكاردو ريس، وبيرناردو سواريس، وأنطونيو مورا.

يا لَها من أسماء ومن حيوات. لا شيء فيها يبعث على الريب أو الشكّ، حتى تواريخ ميلادهم القريبة من تاريخ ميلاد بيسوا: (15 تشرين الأول/أكتوبر 1890 لـ ألفارو دي كمبوس، و1889 لـ ألبيرتو كاييرو، و19 أيلول/سبتمبر 1887 لـ ريكاردو ريس)؛ كلّها مصاغة بحبكة كي يكون الأنا مختلفاً ومغايراً، كي يكون أنا مخلّصاً لما يبحث عنه من اختلاف ومعارف وطرق وثنايا متعدّدة. هي أوديسة جديدة، لرجل يُدعى بيسوا، اسمٌ، كما كتب الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز، ينحدر من اللاتينية ويعني "بارسونا"، أي القناع، شأن القناع الاسمي الذي لبسه أوديسيوس بعد أن فقأ عين العملاق بوليفام ابن إله البحر بوسيدون، حين قال له: "اسمي لا أحد"؛ فهو قناع كالأقنعة الكثيرة التي اختبأ وراءها بيسوا لكتابة أدبه الفريد.

ربما هو معنى ذلك العمل الثوري "كتاب اللاطمأنينة"، الذي أصدره بيسوا تحت اسم برناردو سواراس. لكن لماذا يكتبُ أديب عملاً كهذا، عملاً يدركُ فعلاً أنه أفضل ما جادت به قريحته، عملاً خلاقاً بكامل ما أوتيت الكلمة من معنى، عملاً ليس نثراً ولا شعراً ولا أدباً ولا فلسفة؛ هو كيان نصّي يعبّر عن هواجس "اللاطمأنينة" كما جاء في العنوان، كتاب يفتح للغة وللثقافة البرتغالية - وهي لغة وثقافة ثانويّة في أوروبا وفي العالم - أبواب الكونية والخلود على مصراعيها.

لهذه الأسباب الجلية والمعقّدة في آن، ليس فرناندو بيسوا شاعراً وكاتباً مهمّاً في الأدب البرتغالي والأوروبي والعالمي فحسب، هو كذلك شخصية ملحميّة تارة وتراجيديّة أخرى، لما عاشه من تناقض وتماهٍ وثورة وخنوع في ما كتب وصوّر حسب الشخوص التي أنجب وابتكر للتعبير عن إنّيته المتعدّدة واللامحدودة واللامطمئنّة. ذلك أنّ كلمة "desassossego" أي اللاطمأنينة من ابتكار بيسوا/ برناردو سواراس، وهي إذن لفظة جديدة فتحت أفقاً للغة وأدب وثقافة بأسرها.


* شاعر ومترجم من تونس

المساهمون