مع فيلمه الروائي الطويل الرابع "وليلي"، يمضي فوزي بن السعيدي أبعد في الوصفة المثلى التي وجدها في "موت للبيع"، لقول أشياء مهمّة حول المجتمع المغربي، من دون التخلّي عن طموحه الدائم في مغازلة السينما. يقتفي قصّة عبد القادر (محسن مالزي)، شاب يعمل حارس أمنٍ في مركز تسوّق، يلفي نفسه وسط دوّامة تنحدر به نحو قعر التشرّد والضّياع، فقط لحرصه على تطبيق قواعد عمله في وسطٍ موبوءٍ بالفساد والمحسوبية والشّطط. السلطة، بأشكالها كلّها، نواة الفيلم وطرحه، رغم تناوله آفاقًا أخرى كقصّة الحبّ بين عبد القادر وزوجته مليكة (نادية كوندا)، التي تعمل خادمة لدى سيّدة ثريّة، ما يتيح للفيلم ـ التطرّق بشكل غير مهادن البتّة ـ للبورجوازية، وللأسئلة المطروحة حول الأدوار غير المشرِّفة التي تؤدّيها في تفاقم الفوارق الاجتماعية في المغرب.
"وليلي" كثيفٌ وغنيٌّ بالتحوّلات الدرامية. لا يخلو من لحظات شعرية متحرّرة تمامًا من سطوة السرد، وفيه طرح لا يتردّد في معانقة الغنائية، وشخصيات حقيقية جسّدها ممثّلون موهوبون. فيلم يشبه الحياة، منصفٌ وصادق.
في لقاء "العربي الجديد" معه، تحدّث المغربي بن السعيدي عن "وليلي"، وعن دوافعه وتشابهه واختلافه عن أعماله السابقة:
(*) غالبا ما تكون الشخصيات الرئيسية في أفلامك في تنافر تام مع المجتمع. هكذا يقاسي عبد القادر (محسن مالزي) الأمرّين، فقط لأنه تحرّى النزاهة في بيئة موبوءة بالفساد، مثل مالك (فهد بنشمسي) في "موت للبيع" (2011)، الذي عانى لأنه رومانسي للغاية في مجتمع تطبعه المادّية. هل توافق على هذا الطرح؟
الآن، أقول لنفسي إنّ شخصية الشاب في "ألف شهر"، الحالم بالزواج من الفتاة التي تنتهي بالزواج من رجل غني، تندرج في هذه القراءة. وهذا دافع لها إلى اتّخاذ قرار مأساوي بحرق خيمة حفلة الزفاف.
(*) حتّى القاتل المحترف في "يا له من عالمٍ رائع" (2006).
ـ نعم، هو "يقع في المصيدة" عندما ينساق للحبّ الأعمى مع ضابطة الشرطة. لتلخيص المسألة، هناك شيء ما في شخصياتي يدفعها إلى الارتماء في أحضان الرومانسية.
(*) حتى ننسج على منوال الجملة الشهيرة في ملصق "السقوط" (1993) لجويل شوماخر: "كان ينوي فقط العودة إلى منزله". يمكن القول إنّ عبد القادر أراد فقط القيام بعمله.
ـ بالتأكيد. هنا يكمن تعقيد الوضع. أنا لا أريد أن أبرّئه تمامًا، لكنه شخص نزيه بالفعل. كما أنّ رئيسه يوصيه حرفيًا، في أحد المشاهد، بأنّ يحرص على تطبيق القانون مع الجميع. ربما يفتقد الوعي، وليست لديه قدرة التحليل ليقول: "أنا الذراع المسلّحة للمنظومة التي من شأنها أن تدمّرني في النهاية".
نعم. عبد القادر هو الذراع المسلّحة للرأسمالية المتوحّشة التي ستطحنه في النهاية. في الواقع، هو يعتقد أنّه تصرّف بشكل جيّد حين طبّق القانون على زوجة المتنفّذ (منى فتّو تؤدّي دور الزوجة، وفوزي بن السعيدي يؤدّي دور زوجها المتنفّذ ـ المحرّر). هذا سبب عدم استساغته الظلم الذي تعرّض له، فانحدر إلى القعر بعد ذلك.
(*) ما هو مثير للاهتمام أيضًا علاقته ببدلة العمل، خصوصًا عندما يُعاني في ارتدائها قبل السطو على العشيقين. كأنّه يتحوّل إلى شخص مختلف بمجرّد ارتداء هذا الزّي.
ـ في الواقع، هذا أمر قيل لي ثم لاحظته شخصيًا بعد ذلك: كيف أنّ أشخاصًا يشتغلون حرّاس أمن في القطاع الخاص، يظنّون أنفسهم ضبّاط شرطة. هناك أحداث كثيرة تنجم عن تجاوزهم صلاحياتهم. مهمٌّ بالنسبة إليّ ابتكار هذه الشخصية التي تتواجد من خلال بدلة عملها، وتقول بالتالي أشياء عديدة عن مفهوم السلطة، التي تشكّل أحد المواضيع التي تعبر الفيلم. هناك مشهد تبدو البدلة فيه معلّقة على حبل الغسيل، وعبد القادر وراءها. هناك شيء في هذا المشهد من قبيل...
(*) درع الرجل الحديدي.
ـ نعم. بالضبط.
(*) هذا يشير إلى فكرة الانبهار بقوّة الجلاّد، لأن للسلطة هذه المَلَكة تحديدًا، فهي تنطوي على جانب ساحرٍ حتّى للضحية.
ـ عبد القادر مفتون بسلطة المتنفّذين، والبذخ الذي ينجم عن المال، وعندما يجد نفسه هناك في مواجهة هذا كلّه متخفّيًا وسط حديقة "الفيلاّ"، يُصاب بالشّلل. يحاول الثأر، لكنه يجد نفسه مسحورًا بمنظر "الفيلاّ". هو لا يستطيع الانتقال إلى التنفيذ، وعند نقطة معيّنة يتراجع، لأنّه مسحور بجلاّده، ولأنّه أيضًا ينتهي بأن يتأثّر بحال هذا الرجل، عندما يكتشف أنه يتعرّض للخيانة من قبل زوجته. فالخيانة الزوجية، في منظومة قيم عبد القادر، ذروة العقوبة.
لو أنّ عبد القادر تعرّض للخيانة من قبل مليكة، لقتلها وقتل نفسه. لا يقول الفيلم هذا كلّه مباشرة، لكنّنا نفهمه. بالنسبة إلى عبد القادر، الرجل المتنفّذ مات بشكل ما، بمجرد اكتشافه أن زوجته تخونه.
(*) مفهوم النظر أساسي في الفيلم. لا تدرك مليكة وضعية عبد القادر كضحية إلا بعد مشاهدة مقطع الفيديو أثناء الحفلة. هناك أيضًا حاجة عبد القادر إلى مراقبة جلاّده ليكون قادرًا على فهمه أو معرفة كيفية مواجهته، حتى لو كان كل ما ينوي القيام به في هذا الاتجاه يبدو مثل الإقبال على الانتحار.
ـ تمامًا. هذا ما يطلق عليه تعبير "الشخصيات المأساوية". هؤلاء أناسٌ يحملون معهم مأساتهم، ورغم أنك تحاول إيقافهم، يمضون إلى مصيرهم. هناك شيء يتعلّق بالهوس لدى عبد القادر. يتكشّف ذلك في المشهد الذي يفقد فيه زرًّا من بدلته، الذي يهيئ المتفرّج قليلاً لقبول حقيقة أنّ هذا الرجل يصبح في النهاية مهووسًا بشيء ما بطريقة سوريالية.
(*) في الفيلم مراجع للماضي الغابر (مدينة "وليلي"، لوحات تصوّر السلاطين العلويين في المحكمة، الأسوار التاريخية لمكناس... إلخ.) تدلّ على نوعٍ من استحضار الأمجاد. كأنّك تلفت الانتباه إلى أننا "لم يقطر بنا السّقف"، أو كأنّك تقول بطريقة ما: من العار أن نعيش هذه المآسي كلّها بينما نجرّ وراءنا هذين التاريخ والعراقة.
ـ تمامًا. هذا صحيح جدًا. كما تعلم، كانت "وليلي" في الماضي مدينة مزدهرة. نحن ننحدر من تاريخ عريق جدًا. هذا فيلم يضع قصّة بسيطة للغاية في إطار يمزج بين مراجع عديدة، بما فيها التاريخ والسينما والفضاء الذي يجلب زخمًا للحكي ويحمله إلى مستوى آخر. هذه ليست مجرد قصّة اجتماعية واقعية. يقول الناس أحيانًا إنّ الفيلم يندرج في "الواقعية الاجتماعية". لست موافقًا. يبدأ الفيلم من هذا، لكنه يذهب إلى بعد آخر. أو على الأقلّ، آمل ذلك.
(*) هل لتصوير الفيلم في مكناس، مسقط رأسك، دور في جعل هذه التجربة مختلفة؟
ـ نعم. حصل هذا على مستوى لا أسيطر عليه. بمعنى أني اخترت وجهات نظر للمدينة، تعلوها مسحة "ميلونكوليا". المشهد الذي يُدلِّك فيه عبد القادر يديّ مليكة مع هاتين النخّلتين الوحيدتين في الخلفية مثلاً. هذا فضاء يُفصح عن أننا في مكناس. هناك أيضًا طريقة تصويري الساحة الشهيرة "لهديم". حتى "وليلي"، وهو مكان أعرفه جيدًا إذْ اعتدت ارتياده منذ طفولتي. أقول لنفسي إنّ الفيلم مشوب بالتأكيد بشيء من الذاتية، لا تتعلّق بالقصّة، بل باختيار الفضاءات وكيفية تصويرها.
(*) هناك لحظات متحرّرة من السرد تذكّرنا بـ"يا له من عالمٍ رائع". هل كنتَ بحاجة إلى الوقت لتبنّي هذا التّنوع في النبرات، وهذا ما تحقّق أخيرًا في "وليلي"؟
ـ هذا صحيح. بالفعل. أنا أصنع شيئًا فشيئًا أفلامًا حيث، الموازاة مع إيلاء الاهتمام لتماسك الكلّ، لا يهمّني التساؤل عن "أيّ نوع من الأفلام أنجز الآن"، أو "هل لديّ الحق في المضي في هذا الاتجاه أم لا". مشهد المطعم بين عبد القادر ومليكة مثلٌ على نبرة مختلفة تمامًا جماليًا، لكني أقول لنفسي إن الحياة تنطوي كذلك على لحظات من هذا القبيل. صحيح أني أكتسب تدريجيًا المزيد من الحريات في هذا الجانب. ما تمّ الإعلان عنه وتبنّيه أنجزته بطريقة قويّة ومفتوحة في "يا له من عالمٍ رائع"، حيث القصة ذريعة لصنع السينما. بعد تجريب هذه الراديكالية، عدت بوعي إلى شكل أكثر كلاسيكية في "موت للبيع". لكني تركت في الداخل مجالاً لهبوب رياح من جمالية "يا له من عالمٍ رائع" من حين إلى آخر.
(*) بمعنى أن جمالية "يا له من عالمٍ رائع" ظلّت داخلك وأضحت تعبر لاشعوريًا أعمالك الموالية.
ـ تمامًا. إنه أقرب فيلم إلى قلبي ربما. كنت فيه قريبًا من أشياء تشبهني أكثر. لهوت من خلاله بمفاهيم عديدة، وأصبح الفيلم نوعًا ما "مصفوفة" تتبعني حيثما حللت.
(*) في الوقت نفسه، هناك وحدة طرح وجمالية بين "وليلي" و "موت للبيع" تؤشر إلى أننا بصدد ثنائية. كأنك وجدت مع "موت للبيع" مقاربةً تسمح لك بقول أشياء مهمّة عن المجتمع المغربي، وتصنع سينما في آن واحد.
ـ بالفعل. العودة إلى شكلٍ تمّ استكشافه كثيرًا في تاريخ السينما، أي الشكل الكلاسيكي قليلاً، وفي موازاة ذلك ـ وهذه لمستي ـ الذهاب عكس نفسي. بمعنى أني قلت لنفسي: بعد إنجاز "يا له من عالمٍ رائع"، بحكيه المفكّك تمامًا، هناك أشخاص يُنجزون 5 أفلام من هذا القبيل، وأنا أنجز واحدًا فقط، وأنتقل إلى شيءٍ آخر. لذا، مع "موت للبيع"، شرعت فعلاً في منطق تحكّمٍ وكلاسيكية، دفعته إلى أبعد مع "وليلي"، في أسلوب لعب الممثّلين وكيفية التصوير وإظهار العواطف.
يتكوّن الفيلم من رهانات كهذه. الدفع بعيدًا بالعاطفة، وعدم كبحها، والسماح للكاميرا بأن تكون متأثّرة بها، بعد أن ظلت خجولة وبعيدة في أفلامي الأولى. صحيح أن أشياء من هذا القبيل اختبرتها في "موت للبيع"، ودفعت بها إلى الأبعد في "وليلي"، لكني أعتقد أني سأترك هذا النهج في فيلمي المقبل. هذا شعور ينتابني الآن.
(*) إذًا، لن يتأتّى لنا الحصول على ثلاثية.
ـ لا. أعتقد أنني سأذهب إلى شيء آخر. لكن، لا يمكننا معرفة هذا أبدًا. في ذهني مشروعان، يمضي أحدهما في مسار مختلف، والآخر ربما يكون بالنبرة نفسها للفيلمين السابقين.
(*) شيء آخر أحببته كثيرًا في "وليلي": عمودية الحركات الموجودة في "موت للبيع". أفكّر بحركة السيجارة بين عبد القادر وصديقه على ظهر الشاحنة الصغيرة، التي تذكّر بمرور زجاجات الـ"كوكا كولا" بين الأصدقاء في المقهى في بداية "موت للبيع".
ـ نعم، هذا صحيح.
(*) متى تحدّد هذه الحركات؟ أثناء التصوير أو الكتابة؟
ـ عادة ما تنبع مباشرة قبل التصوير. إنّها متعلّقة أكثر بالعمل على الفضاء. عندما أجد الفضاء، أبحث عن طريقة لتحريك الممثلين فيه، فأعثر على أفكار كهذه. بالنسبة إلى السجائر: هذه فكرة موجودة منذ الكتابة. بحكم أن السيجارة كانت دافعًا صغيرًا إلى الحكي، كتبت على الورقة أن الصديقين سيتشاركان بسيجارة. عبد القادر المحافظ سيرفض إعطاء رشفة من سيجارته لمليكة، التي تنتزع السيجارة من يد صديق عبد القادر لاحقًا.
(*) بالحديث عن الممثلين، استكشفت فعليًا الجانب الخشن لمحسن مالزي في"موت للبيع". لكن نادية كوندا اكتشاف جديد بالنسبة إليك. كيف حدث اللقاء بها؟
ـ تمّ اللقاء على مرحلتين. قابلتها عام تقديم "موت للبيع"، لتأديتها دورًا في فيلم نرجس النجار ("عاشقة من الريف"، 2012 ـ المحرِّر)، لكني لم أرها في الفيلم. كنت في بداية كتابة "وليلي"، وكنت فكّرت قليلاً بها من أجل مليكة. بعد ذلك، أخذتني الكتابة، التي أكملتها عام 2013. ثم دخلنا مرحلة التمويل، واستغرق الأمر أعوامًا عديدة، نسيت خلالها إمكانية تأدية نادية هذا الدور. لذلك، قررت القيام بـ"كاستنغ"، لأني لم أعثر على من يؤدّيه. هناك ممثلتان محتملتان، لكني لم أتمكّن من اتخاذ قرار. ثم اعتقدت أن هناك مشكلة، وأني لم أجد الدور. عقدتُ اجتماعًا لدرس الأمر، فإذا بأحدهم يُذكِّرني بنادية كوندا. جاءت وخضعت للاختبار. كان بديهيًا جدًا أنها مليكة. إنه أمر مدهش. منذ المحاولة الأولى، تأكّدتُ من أن الدور لها. كنتُ واثقًا بهذا.
(*) هذا استعمال شبه مضاد: نادية كوندا ومظهرها المشرق في دور خادمة، تقوم به عادة ممثلات يحملن ـ حتى مورفولوجيًا ـ وصمة شرطهنّ الإنساني.
ـ بالضبط. هذا خيار واعٍ أتحمّل عواقبه. إنّها مثل زهرة "وليلي". زهرة جميلة وبرّيّة يمكن أن تنمو في أي مكان. وُلدت مليكة في الجانب الخطأ كفتيات عديدات، لكنها لا تفتقر إلى الذكاء. نحسّ أنها تعي أكثر من عبد القادر الرهان الذي يواجهها، وموقع تواجدها. نشعر أنها فتاة كان يمكن أن تذهب بعيدًا لولا تنكّر الحياة لها.
اختيار نادية كوندا يستجيب أيضًا لبعدٍ آخر. إنه بُعد الرومانسية في الفيلم، وهو حسّي ومثير يعرض نفسه عندما يتأمّل المرء عمل الفيلم على شكل طبقات. هناك تحدّي خلق ثنائي سينمائي ذي مصداقية، وهذا مردّ اختيار كوندا ومحسن مالزي، وهو زوج يحفِّز نوعًا من الشهوانية الكامنة. لا علاقة لهذا بالعري. هذا جانب أقل تمظهرًا، يتعلّق بالنظرة التي تخلق توتّرًا إيروتيكيًا. اضطلع مالزي بدور كبير أثناء الـ"كاستنغ".
(*) أحد المستجدات أيضًا بالنسبة إليك هو الوسط البورجوازي. بما أنك غير متحدّر منه، هل كانت صعبة عليك كتابة شخصيات بورجوازية؟
ـ صراحة، ما يصفه الفيلم هو بورجوازية معيّنة. أعلم أنّ هناك بورجوازية مستنيرة، وأناسًا فعلوا أشياء عظيمة في المجتمع المدني. هناك أحيانًا شخصيات بورجوازية مثيرة للاهتمام، ولديها لمسة كآبة وحسّ فكاهة يتعلّقان بخلفياتها. ليس هذا ما أردته لهذا الفيلم.
اخترت الصراع الطبقي. اخترت أن أتموقع. اخترت التحدّث عن أولئك الذين تصعب مسامحتهم. بأمانة، هناك أناس لاموني على هذا، في المغرب وفرنسا. صحيحٌ أنه يصعب توضيح ذلك. خياري كان بازولينيًا نوعًا ما. بازوليني كتب مقالات بعنوان "الفوضى" في "إل تيمبو". في الأولى، شرح ما سيتحدث عنه لاحقًا، وأعلن عن فحوى العمود، قائلاً بشكل أساسي إنّ القارئ سيشعر بالحيرة بسبب ما سيكتبه، لأنه سيكون عنيفًا مع البورجوازية. أردف بشيء لا أجد في نفسي الصلابة اللازمة لقوله: البورجوازية ليست طبقة اجتماعية بل مرضًا. شرح كيف أنها استبدّت باليسار وبمن يسميهم "النشطاء الوحيدين"، الذين لا انتماء لهم، والعمّال أيضًا. في "وليلي"، ندّدتُ بشيء ما بشدّة، لكن ذلك متوازن مع فئة البورجوازية الرافضة لرؤية ما يحدث.
(*) هناك شعور في هذا الفيلم أيضًا يقول إنّ البورجوازية تكاد تكون غير مدركة لما يحدث لها. هذا يتبدّى مثلاً في المشهد الذي يتناقل فيه المدعوون إلى الحفلة مقطع فيديو بشكل مثير للسخرية.
ـ هذا المقطع مزحة بالنسبة إليهم. عندما يجتمعون معًا في الحفلة، ينتابهم شعور بالقوة: "نحن هنا بين بعضنا البعض"، "نحن الفائزون". وعندما تنسى مالكة الفيلاّ ليلى (نزهة رحيل)، صباح اليوم التالي، وعودها لمليكة في المساء، هناك لامبالاة تظهر. لذا، عندما يبدأ الرجل المتنفّذ بالتفاخر بأشياء لم يفعلها، ينتابنا شعورٌ بالسخافة. الفيلم ليس مهادنًا أبدًا مع هؤلاء الناس.
(*) هناك أيضًا فكرة أن عالمهم فارغ للغاية، بحيث إنّ مجرد مقطع فيديو يقلبه بهذا الشكل.
ـ بالتأكيد. هذا واضح أيضًا في مشاهد مراقبة الفيلا بعيني عبد القادر، عندما يبدو الزوجان في وحدة تامّة وعدم قدرة على التواصل.
(*) في مشهد الحفلة، لقطة متابعة طويلة ومعقّدة للغاية، ليست "بنسعيدية" كثيرًا. هل كان تصويرها صعبًا؟
ـ هذا صحيح. تدوم اللقطة 3 دقائق، تبدأ من الخارج عندما أصل برفقة منى فتو إلى الفيلاّ، ثم ندخل. تتركنا الكاميرا لوهلة، ثم تلتقطنا ونحن في الداخل. حركة 360 درجة مرّتين اثنتين. لذا، كان يجب ألا يكون هناك أي حامل "بروجكتور" ظاهرًا على الصور. حتى تركيب الضوء معقدٌ لأنه لا يوجد ركن في الفضاء يمكنك وضع شيء ما فيه. تمّ تثبيت كلّ شيء في الأعلى. أمضينا ليلة كاملة في تنفيذ هذه اللقطة وحدها، وهذا مكلف للغاية إنتاجيًا. لكن هذه اللقطة الطويلة ضرورية، لأنه عند نقطة معينة، أسلوبيًا، تعلن عن قرب حدوث زوبعة. هناك توتر يحدث مع حركة الكاميرا التي تُخبر أنّ ما نحن بصدده شيء أكثر من حفلة عابرة. يساهم في هذا تركيزنا على مليكة في لحظة ما. نتخلّى عنها للحظة، ثم نعود إليها. يخلق هذا توتّرًا لم يكن ليحدث لو أنّنا تبنّينا التقطيع البسيط، الذي يتم تبنّيه غالبًا في مشاهد الأمسيات في أفلامنا: لقطات ثابتة على مدعوين هنا وهناك.
(*) إحدى خصائص أسلوبك تتمثل في تملّك الفضاءات الداخلية للبيوت المغربية، التي تفتقر إلى "السينيجينيا"، أو قابلية التصوير السينمائي، خصوصًا في توزيع الناس وطريقة جلوسهم.
ـ هذا لأنّ الناس يجلسون بشكل مصفوف وغير متقابل.
(*) تمامًا. أتذكّر أنه، في مناقشة مع مخرجين مغاربة أصدقاء، ذكرت أسلوبك كمثل عن براعة استثمار الفضاء بطريقة تسمح لك بحلّ هذه المشكلة، بما في ذلك وضع الشخصيات على مستويين في أفق منظور واحد، كما هو الحال مع غرفة الأب في منزل عبد القادر، وكما كان الحال مع الفضاء الخاصّ بمالك في منزل زوج والدته في "موت للبيع"، حيث يتحرّك على مستوى مخالف لمستوى جلوس بقية أفراد الأسرة، ما يسمح بتمرير فكرة متعلّقة بالسرد من خلال اختيار "ميزانسين" ذكي للغاية.
ـ بالضبط. أصبت في كلّ ما ذكرته. لكن، قبل ذلك، عليك البحث عن الفضاء. على المرء ألا يكتفي بالفضاء الأول المُقدّم إليه. يجب العثور على مكان محدد تكون فيه غرفة نوم بباب يكسر أفق المنظور عند فتحه على بهو "غرفة المعيشة". صحيح جدًا ما قلته. هناك دائمًا طريقة للالتفاف على الإكراهات. مرة أخرى السينما ليست "الواقع". مثلاً: هناك ضبط النفس في تمثيل الدراما في الغرب، ترتبط بطريقة دفن موتاهم. هذا يجعل ضبط النفس أكثر ملاءمة فيما يتعلّق بطريقة لعب الممثّلين. عندنا، إذا تبنّيت نهجًا واقعيًا خلال تصوير كيفية ردّ فعل الناس على وفاة أحد الأقرباء، يبدو الأمر مبالغًا به. هل يجب تصوير امرأة تئنّ وتصرخ بروحها كلّها؟ في السينما، لسنا مجبرين على الحفاظ على ذلك كما هو. يمكننا الاشتغال عليه، ولكن كيف. ينبغي ترويض الواقع. سيأتي دائمًا أحدهم ليقول لك إنّ ما قمتَ به لا مصداقية له، وإنّ "الأمور لا تسير على هذا النحو". لكن، ليس لأن الأمور تجري وفق طريقة معيّنة نُصبح ملزمين بتمثّلها بالطريقة نفسها في السينما. إذا رسم أحدهم ديكورًا نراه من هذه الشرفة ليكون أجمل، لا يمكننا أن نقول له: "لا. ليس لديك الحق في أن ترسمه هكذا".
(*) إنه جدل حول مسألة جرعات الواقع في السينما، بين مدرسة تدافع عن أن الخلق يتمّ من خلال تشذيب الواقع بقيادة بريسون، وأولئك الذين يدّعون أنه يمرّ عبر الإضافة بالأخرى.
ـ نعم، هذه حالة فيلّيني مثلاً، الذي يخلق بإضافة منسوب الخيال إلى الواقع.
(*) أنت أقرب إلى فيلّيني من بريسون. أليس كذلك؟
ـ صحيح، وبشكل عميق. أنا مندرج في المبالغة، وحتّى في الخيال غير المقيّد أحيانًا.
(*) أي مرحلة تفضّل أكثر: الكتابة أو التصوير أو المونتاج؟
ـ إنها مشكلة حقيقية بالنسبة إليّ، لأني أحبّ كل شيء، صدقًا. هذا عائدٌ إلى كوني مجنونًا بحبّ السينما. لدي علاقة عاطفية معها. لذلك، وطالما أن فرصة إنجاز السينما ممنوحة لي، فأنا أستمتع بكلّ خطوة. أستطيع القول إنّي أفضّل الكتابة. لكن، في الوقت نفسه، أحبّ التصوير لأن هناك ممثلين.
(*) هذا جانب المسرح الذي يستهويك كثيرًا.
ـ نعم. أجد نفسي في عملية التصوير في جوّ فرقة وحرارة أناس. أحبّ المونتاج أيضًا، لأننا نعمل فيه على الموسيقى والأصوات والإيقاعات.
(*) هل تُجري "بروفات" كثيرة كصانعي الأفلام الذين لديهم خبرة في المسرح؟
ـ بصراحة، لا. لكني أمضي وقتًا كثيرًا في اختيار الممثلين. لا تجري جلسة "كاستنغ" واحدة في غيابي، حتى لو اقتضى الأمر معاينة 400 شخص. صحيح أن الأمور تصبح بطيئة جدًا بهذه الطريقة، لكني أعلم أنه عندما لا أخطئ في هذا الاختيار، وإنْ يكن هناك عمل توجيه الممثلين، فإني أتجنّب تكرار الاشتغال كثيرًا. أحبّ الاحتفاظ بشيء من النضارة في لحظة التصوير، والعثور على الأشياء أثناء التصوير. هنا تكمن قوة السينما، فهي تمكّنك من الحصول على معجزات.
(*) وهل تكرّر تصوير اللقطات مرّات عديدة؟
ـ لا. متوسط التصوير عندي 5 مرّات. لا يمنع ذلك أحيانًا من الدفع بعيدًا جدًا للحصول على شيء ما. مثلاً، تمّ الحصول على لقطة المتابعة الطويلة أثناء الحفلة في 6 محاولات، بينما يصعب جدًا تصويرها. أحيانًا، عندما يثق المرء بتصاميمه وممثّليه، فإن ما يبقى لتحقيقه هو النجاح التقني.
(*) هناك جانب آخر أعجبت به: سلاسة الانتقال من مشهد إلى آخر، على غرار النقلة الرائعة إلى "وليلي" من خلال فسيفساء أرضية.
ـ وهذا انطلاقًا من اللوحات المعلّقة على جدران الفيلاّ. في البداية، لا نعرف أين نحن. إنّها فسيفساء تمثّل وجه امرأة و"كيوبيد" ممتشقًا سهامه. اخترت الفسيفساء الأقرب إلى قصّة حب.
(*) في أيّ مرحلة تحدّد هذه النّقلات؟ في الكتابة، أم تجدها لاحقًا؟
ـ منذ السيناريو. أتذكّر أنّ 3 نقاط كانت في نهاية مشهد الفيلاّ و3 أخرى في بداية مشهد "وليلي".