ازدهر فنّ الشارع في تونس ما بعد الثورة، ليعجِّل بالمصالحة بين المواطن التونسي ومختلف الفنون، وذلك بعد قطيعة دامت عقوداً، على خلفية سعي النظام السابق لتدجين الفعل الفني، وتأطيره خدمةً لأجنداته ولرؤاه الضيقة. تحررت فنون كالموسيقى والمسرح والسينما والرقص منذ سنوات قليلة، فخرجت من القاعات لتملأ الشوارع والساحات والقرى. وشيئاً فشيئاً انتظمت فنون الشارع في إطار تظاهرات ومهرجانات شهدت إقبالاً جيّداً، وساهمت في نشر الفرح والأمل، في ظلِّ ظروف أمنيَّة واقتصاديَّة تميَّزت بالتوتُّر.
يحمل الفنان متعدّد المواهب، ياسر الجرادي، قيثارته ويقضي كل فصول السنة متنقلاً من أقاصي شمال البلاد إلى أقاصي جنوبها. يحمل ياسر موسيقاه على ظهره، وينطلق ناثراً سحر الكلمات، وهو لا يبتغي أجراً أو شهرة. كان لأغنيته الوطنية "نرجعلك ديما" إبان ثورة الياسمين تأثير ساحرٌ على الشبان الثائرين، رددوها في هتافاتهم، وبكوا سراً لكلماتها التي تقطر ألمًا وحسرة وأملاً. رثا ياسر الجرادي في أغنيته "نسمع فيك"، الشهيد شكري بالعيد.
لا يحبِّذُ ياسر الحديث عن نفسه، ولكنَّه قال في دردشةٍ خصَّ بها "العربي الجديد": "نحن لا نصنعُ موسيقى الشارع، الشارع بكلّ تناقضاته وأحلامه هو من يصنع موسيقانا. والشارع، هو المواطن التونسي في كلِّ شبرٍ في هذه الأرض، وكلُّ ما يحيط به من شجر وحجر وهواء وحياة. تنجح موسيقى الشارع في استيطان القلوب والذاكرة، لأنها حقيقية وليست مزيفة. لا يستغرق تلحين أغنية وقتاً طويلاً، ولا يتطلب الأمر نقاشاتٍ حول اللحن أو الكلمات. هذه الأغاني تولد كما يولد الطفل بعد مخاضٍ أليم، إنَّها تمثل الحياة التي تنتابنا بألمها ثم تواسينا بابتسامة".
عرفت موسيقى الشارع أوجها أثناء الثورة مع المغني، بيرم الكيلاني، الملقب بـ "بنديرمان". بيرم الذي حول بكلمات بسيطة وساخرة أغلب أحداث الثورة إلى أهازيج تناقلها المحتجون على المواقع الاجتماعية، دفع فيما بعد ثمن جرأته من خلال محاولة التضييق على حفلاته من طرف رجال الأمن وحملات التشويه المتكررة التي لحقته من أنصار بعض الأحزاب كحزب حركة النهضة. آخر إصدارات بنديرمان تمثلت في أغنيةٍ ساخرة انتقد من خلالها نقيب الفنانين التونسيين مقداد السهيلي، الذي طالب بسجن كل من يسمح لنفسه بممارسة مهنة الموسيقى، دون الحصول على بطاقة احتراف.
فنان الغرافيتي والسينمائي الشاب، شاهين بالريش، تحدث أيضاً في تصريح لـ "العربي الجديد"، عن المضايقات التي تعرضت لها مجموعة "زواولة" لفن الغرافيتي، والتي وصلت إلى حد مقاضاتهم وتغريمهم بتهمة "الكتابة على الجدران بدون رخصة، ونشر أخبار زائفة وتعكير صفو النظام العام". شاهين اعتبر مقاضاته ورفاقه ظلمًا مقصوداً، خصوصاً مع قيام بلدية مدينة قابس، بالسماح لبعض الشباب بممارسة فن الغرافيتي، ومنع آخرين.
تحدّث شاهين، أيضاً، عن تجربته مع سينما الشارع. حيث أكد أن الضرورة الفنية حتمت في فترة ما على المبدعين، الخروج من القاعات والانتشار في الفضاءات الحرة. البداية حسب روايته كانت سنة 2010، بتنظيم ورشات للسينما لفائدة أطفال مدن داخلية كسيدي بوزيد وساقية سيدي يوسف. في هذه الورشات، تعلَّم الأطفال كيفيَّة إمساك الكاميرا وضبط الإضاءة وكتابة السيناريو والبحث عن أفكار جديدة، وكان تجاوب الأطفال ملفتاً ومشجّعاً، وذلك لإعادة الكرة في أكثر من مناسبة وفي مدن أخرى عديدة. شاهين يرى أن أساس الإبداع، هو الخروج من ظلمة الجدران والمقاعد والطابع التجاري، الذي يجعل من الفن شيئاً قابلا للبيع، لا خلقاً جميلاً يهذّب النفوس، ويزرع بذرة الكرامة والاعتماد على الذات والتحرر.
إقرأ أيضاً:جدران المدينة العتيقة تنطق بالحياة في "المنستير" التونسية
عرف شهرا نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من سنة 2015، تنظيم أكبر تظاهرة لفن الشارع في تونس تحت عنوان “مبدعون من أجل الحياة”. وشهدت هذه التظاهرة التي انتظمت تحت رعاية وزارة الثقافة مشاركة كل محافظات الجمهوريَّة، وسجَّلت مشاركة قياسيَّة في الرسم والسينما والرقص والمسرح، وغيرها من الفنون التي جابت البلاد وأثارت حماسة الأطفال على وجه الخصوص. هذه التظاهرة الضخمة كانت متميّزة وواعدة، خصوصاً مع حضور التونسيين لعروض مختلفة وطريفة، كالعزف داخل القطار والحافلات وإشراك المواطنين في العروض المسرحية الحية، وغيرها من الأنشطة التي قطعت مع السائد والمعهود وفجَّرت مواهب وطاقات مغمورة.
هذه التظاهرة ليست فريدة من نوعها، فقد انتظمت بمدينة قصر هلال منذ سنة 2012، أول دورة لمهرجان فنون الشارع والذي حافظ على نجاحه طيلة أربعة سنوات، وعرف مشاركة من عدد من الفنانين الملتزمين، ووفاءً من جمهور يمتلكُ ذائقة فنيّة جيّدة.
الصحافي والناقد الفني، صالح السويسي، تحدث لـ "العربي الجديد"، عن فعاليات هذا المهرجان بكثير من العاطفة والرغبة في إنجاح مسار هذا المولود الثقافي، قائلاً: "انطلق مهرجان فن الشارع بمدينة قصر هلال في الساحل التونسي، كحلمٍ راود مجموعة من الشباب الذين آمنوا بضرورة أن تكون الفنون منطلقاً ونهاية لكل تغيير حقيقي في أي مجتمع، مهما كانت خلفياته المعرفية أو مرجعياته أو أجنداته". من هذا المنطلق، كانت بداية هذا المهرجان الذي انطلق بميزانية لا تتجاوز دنانير قليلة. ومع ذلك، كان للشباب من الرغبة والتحدّي والإصرار، ما جعلهم يواصلون بقدرةٍ هائلةٍ على الصبر والعمل بصمت، مع سعيٍ متواصل لتقديم الإضافة للمشهد الثقافي، في جهة الساحل وفي تونس بشكل عام. ودورة بعد أخرى تطوّرت التجربة واكتمل وجه القمر، وأصبح المهرجان وجهة فنانين مهمّين، ليس من تونس فقط، بل ومن خارجها أيضاً.
ويختتمُ السويسي قائلاً: "لقد ظفر هذه المهرجان بمكانةٍ متميّزة ضمن خارطة المهرجانات التي تخصَّصت في فنون الشارع، خاصَّة بعد الشراكات التي أبرمتها الجمعية المنظّمة للتظاهرة مع جمعيات ومنظمات داخل تونس وخارجها".
إقرأ أيضاً: هذا ليس ميداني: مسحوا كل الرسومات
يحمل الفنان متعدّد المواهب، ياسر الجرادي، قيثارته ويقضي كل فصول السنة متنقلاً من أقاصي شمال البلاد إلى أقاصي جنوبها. يحمل ياسر موسيقاه على ظهره، وينطلق ناثراً سحر الكلمات، وهو لا يبتغي أجراً أو شهرة. كان لأغنيته الوطنية "نرجعلك ديما" إبان ثورة الياسمين تأثير ساحرٌ على الشبان الثائرين، رددوها في هتافاتهم، وبكوا سراً لكلماتها التي تقطر ألمًا وحسرة وأملاً. رثا ياسر الجرادي في أغنيته "نسمع فيك"، الشهيد شكري بالعيد.
لا يحبِّذُ ياسر الحديث عن نفسه، ولكنَّه قال في دردشةٍ خصَّ بها "العربي الجديد": "نحن لا نصنعُ موسيقى الشارع، الشارع بكلّ تناقضاته وأحلامه هو من يصنع موسيقانا. والشارع، هو المواطن التونسي في كلِّ شبرٍ في هذه الأرض، وكلُّ ما يحيط به من شجر وحجر وهواء وحياة. تنجح موسيقى الشارع في استيطان القلوب والذاكرة، لأنها حقيقية وليست مزيفة. لا يستغرق تلحين أغنية وقتاً طويلاً، ولا يتطلب الأمر نقاشاتٍ حول اللحن أو الكلمات. هذه الأغاني تولد كما يولد الطفل بعد مخاضٍ أليم، إنَّها تمثل الحياة التي تنتابنا بألمها ثم تواسينا بابتسامة".
عرفت موسيقى الشارع أوجها أثناء الثورة مع المغني، بيرم الكيلاني، الملقب بـ "بنديرمان". بيرم الذي حول بكلمات بسيطة وساخرة أغلب أحداث الثورة إلى أهازيج تناقلها المحتجون على المواقع الاجتماعية، دفع فيما بعد ثمن جرأته من خلال محاولة التضييق على حفلاته من طرف رجال الأمن وحملات التشويه المتكررة التي لحقته من أنصار بعض الأحزاب كحزب حركة النهضة. آخر إصدارات بنديرمان تمثلت في أغنيةٍ ساخرة انتقد من خلالها نقيب الفنانين التونسيين مقداد السهيلي، الذي طالب بسجن كل من يسمح لنفسه بممارسة مهنة الموسيقى، دون الحصول على بطاقة احتراف.
فنان الغرافيتي والسينمائي الشاب، شاهين بالريش، تحدث أيضاً في تصريح لـ "العربي الجديد"، عن المضايقات التي تعرضت لها مجموعة "زواولة" لفن الغرافيتي، والتي وصلت إلى حد مقاضاتهم وتغريمهم بتهمة "الكتابة على الجدران بدون رخصة، ونشر أخبار زائفة وتعكير صفو النظام العام". شاهين اعتبر مقاضاته ورفاقه ظلمًا مقصوداً، خصوصاً مع قيام بلدية مدينة قابس، بالسماح لبعض الشباب بممارسة فن الغرافيتي، ومنع آخرين.
تحدّث شاهين، أيضاً، عن تجربته مع سينما الشارع. حيث أكد أن الضرورة الفنية حتمت في فترة ما على المبدعين، الخروج من القاعات والانتشار في الفضاءات الحرة. البداية حسب روايته كانت سنة 2010، بتنظيم ورشات للسينما لفائدة أطفال مدن داخلية كسيدي بوزيد وساقية سيدي يوسف. في هذه الورشات، تعلَّم الأطفال كيفيَّة إمساك الكاميرا وضبط الإضاءة وكتابة السيناريو والبحث عن أفكار جديدة، وكان تجاوب الأطفال ملفتاً ومشجّعاً، وذلك لإعادة الكرة في أكثر من مناسبة وفي مدن أخرى عديدة. شاهين يرى أن أساس الإبداع، هو الخروج من ظلمة الجدران والمقاعد والطابع التجاري، الذي يجعل من الفن شيئاً قابلا للبيع، لا خلقاً جميلاً يهذّب النفوس، ويزرع بذرة الكرامة والاعتماد على الذات والتحرر.
إقرأ أيضاً:جدران المدينة العتيقة تنطق بالحياة في "المنستير" التونسية
عرف شهرا نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من سنة 2015، تنظيم أكبر تظاهرة لفن الشارع في تونس تحت عنوان “مبدعون من أجل الحياة”. وشهدت هذه التظاهرة التي انتظمت تحت رعاية وزارة الثقافة مشاركة كل محافظات الجمهوريَّة، وسجَّلت مشاركة قياسيَّة في الرسم والسينما والرقص والمسرح، وغيرها من الفنون التي جابت البلاد وأثارت حماسة الأطفال على وجه الخصوص. هذه التظاهرة الضخمة كانت متميّزة وواعدة، خصوصاً مع حضور التونسيين لعروض مختلفة وطريفة، كالعزف داخل القطار والحافلات وإشراك المواطنين في العروض المسرحية الحية، وغيرها من الأنشطة التي قطعت مع السائد والمعهود وفجَّرت مواهب وطاقات مغمورة.
هذه التظاهرة ليست فريدة من نوعها، فقد انتظمت بمدينة قصر هلال منذ سنة 2012، أول دورة لمهرجان فنون الشارع والذي حافظ على نجاحه طيلة أربعة سنوات، وعرف مشاركة من عدد من الفنانين الملتزمين، ووفاءً من جمهور يمتلكُ ذائقة فنيّة جيّدة.
الصحافي والناقد الفني، صالح السويسي، تحدث لـ "العربي الجديد"، عن فعاليات هذا المهرجان بكثير من العاطفة والرغبة في إنجاح مسار هذا المولود الثقافي، قائلاً: "انطلق مهرجان فن الشارع بمدينة قصر هلال في الساحل التونسي، كحلمٍ راود مجموعة من الشباب الذين آمنوا بضرورة أن تكون الفنون منطلقاً ونهاية لكل تغيير حقيقي في أي مجتمع، مهما كانت خلفياته المعرفية أو مرجعياته أو أجنداته". من هذا المنطلق، كانت بداية هذا المهرجان الذي انطلق بميزانية لا تتجاوز دنانير قليلة. ومع ذلك، كان للشباب من الرغبة والتحدّي والإصرار، ما جعلهم يواصلون بقدرةٍ هائلةٍ على الصبر والعمل بصمت، مع سعيٍ متواصل لتقديم الإضافة للمشهد الثقافي، في جهة الساحل وفي تونس بشكل عام. ودورة بعد أخرى تطوّرت التجربة واكتمل وجه القمر، وأصبح المهرجان وجهة فنانين مهمّين، ليس من تونس فقط، بل ومن خارجها أيضاً.
ويختتمُ السويسي قائلاً: "لقد ظفر هذه المهرجان بمكانةٍ متميّزة ضمن خارطة المهرجانات التي تخصَّصت في فنون الشارع، خاصَّة بعد الشراكات التي أبرمتها الجمعية المنظّمة للتظاهرة مع جمعيات ومنظمات داخل تونس وخارجها".
إقرأ أيضاً: هذا ليس ميداني: مسحوا كل الرسومات