اختتمت، قبل أيام، الدورة التاسعة من "المهرجان الثقافي الوطني لموسيقى الديوان" الذي استضافته العاصمة الروحية لهذا النوع الموسيقي، مدينة بشار في الجنوب الغربي من الجزائر.
تاريخياً، اتخذ السماع الصوفي في هذه الربوع اسم "الديوان"، وهو بمثابة مناسبة فنيّة تنعقد في الزوايا المنتشرة في كل المغرب العربي، واحتفالاً دينياً يعتمد على أشعار مديح وابتهال تصاحبها الآلات الموسيقية. غير أن ما يميز "الديوان" هو حضور البعد الأفريقي في أدائه وطقوسه. ويتجلى ذلك في صلته الوثيقة بفن القناوة وتداخلهما بشكل تصعب معه التفرقة بينهما، وبالحضور الملفت لـ"سيدنا بلال" الصحابي الجليل في قصائده.
وقد كان "الديوان" عرضاً يخصّ مناسبات دينية محددة، مثل المولد النبوي أو لدى عودة الحجيج، وارتبط في بداياته بالزوايا والطرق الصوفية التي اتخذت كل واحدة منها قصائد وأوراداً خاصة، مستعينة به كوسيلة تربية روحية، تعبّر من خلاله عن الأحوال والمقامات النفسية للمتصوف والمريد، ساعية إلى مماثلة غنى الحياة الباطنية في الصحراء. واستطاع هذا الفن التأليف بين طبقات المجتمع التي ضمّت "الأسياد" وعامة الناس و"العبيد".
وتُعرف وَصَلاتُه الغنائية بنسقها المتصاعد والمتسارع، الذي يبلغ ذروته بدخول آلة إيقاعية مثل القرقابو، وتكرار للازمة محددة وذلك طلباً للجذب الصوفي. ويمكن اعتباره عرضاً فنيّاً مكتملاً، إذ يشمل إلى جانب الموسيقى والغناء الجماعييْن، رقصاً شعبياً فريداً إضافة إلى اهتمام خاص بالأزياء وبألوانها التي تعدّ ذات رمزية كبيرة في عملية الاستحضار التي ينشدها المؤدون.
نهلت فرق موسيقية عديدة من هذا الفن واتخذته عمقاً جمالياً أدّى إلى نجاحها على المستوى العالمي، مثل فرقة "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" في المغرب أواسط السبعينات، ومؤخراً فرقة "ديوان القعدة" و"فريكلان" في الجزائر.
نتج عن هذا التفاعل أن أُثريت موسيقى الديوان والقناوة من فنون عصرية أخرى مثل الجاز والراغاي؛ ورغم أن بعض هذه التجارب قد تؤدي أحياناً إلى الابتعاد به عن طريقته وإضاعة خصوصيته، إلا أن الإبقاء عليه في صورته الأولى، وسعي بعض الفرق المحلية إلى استعادة هذا التراث كما هو، في محاكاة متقيّدة بالأصول، بغرض تحويله إلى فلكلوريّة تشبع فضول السياح.
ويتمثل التجديد الحقيقي في الحفاظ على خصائصه الفنية والاتجاه إلى "أرضنة" القصائد والكلمات والتخفيف من الحمولة الدينية الثرية التي اُشتهر بها؛ ففي "عالم منزوع السحر" بتعبير فريدريش شيلر، تبدو المراهنة على الشرط الإنساني ضرورة فنية لمجاراة عصر موسيقي قلق.