ارتبط فن تلاوة القرآن، دوماً، باسم أعلام القراء المصريين، الذين شيّدوا بأصواتهم وأدائهم صرحاً عالياً لمدرسة التلاوة المصرية، وأصبحت تلاوتهم مطلباً لشعوب العالم الإسلامي كله. فمن ينسى أصوات القرّاء؛ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، وعبد الباسط عبد الصمد، وأبو العينين شعيشع، ومحمد صديق المنشاوي، ومحمود خليل الحصري، وكامل يوسف البهتيمي، ومحمود علي البنا، وغيرهم من أصحاب الحناجر الذهبية، والأصوات الخالدة في وجدان الشعوب العربية والإسلامية.
اتسمت التلاوة المصرية دوماً بخصائص جعلتها تحظى بتلك المكانة الكبيرة، منها دقة أحكام التجويد، والتغني بالقرآن وفقاً لمقامات النغم العربية، وأن يكون الأداء دوماً عبر أصوات مميزة وقوية.
كان الشيخ محمد صديق المنشاوي آخر جيل الأعلام التحاقاً بالإذاعة؛ إذ اعتُمد فيها قارئاً عام 1953. من وقتها، توقف المد العبقري، وانقطع ظهور تلك الأصوات المهمة. بالطبع، عرف المستمعون خلال حقبة الستينيات عدداً من القراء الممتازين، لكنهم لم يكونوا بمستوى الجيل الأول. ومع دخول حقبة السبعينيات، ورحيل عدد من أعلام القراء، وتقدّم السن بمن بقي منهم، أصبح واضحاً أن التلاوة المصرية دخلت مرحلة تراجع وأفول، ثم جاء عقد الثمانينيات ليؤكد أن الهوة صارت عميقة، وأننا ابتعدنا كثيراً عن نمط الأداء الأخاذ.
خلال القرن الماضي، وبتتبع تسجيلات كبار القراء، يمكن للباحث في هذا التراث أن يقول إن القراء المصريين يستخدمون عدداً من المقامات العربية الأساسية، في تلاوتهم القرآن الكريم، وهي البيات، والصبا، والحجاز، والراست، والنهاوند، والسيكاه، والعجم، كما يستخدمون بعض المقامات الفرعية، مثل الشوري، والبستنيكار، والجهاركاه، والعشاق المصري، وبقدر أقل يستخدمون مقام الكرد.
مع الظهور المدوي للشيخ مصطفى إسماعيل منتصف الأربعينيات، أرسى الرجل قواعد شبه ثابتة للتعامل مع هذه المقامات وترتيب علاقاتها. فأصبح الاستهلال بمقام البياتي قاعدة لا تتخلف، كما رسخ إسماعيل قاعدة إشباع المقام، والوصول إلى جوابه قبل الانتقال إلى غيره. ومن خلال تلاوات الرجل أيضاً، ترسخ ترتيب شبه مستقر لهذه المقامات؛ فبعد البدء بالبياتي يأتي الصبا أو الحجاز، ثم النهاوند، ثم الراست، أو السيكاه، ثم العجم أو الجهاركاه، ثم العودة إلى البياتي تمهيداً للختام.
كان هذا الترتيب هو الغالب، وقد يختلف بتقديم مقام على آخر، لكن الثابت فيه أن الاستهلال يكون بمقام البياتي، وأن المقام التالي يكون صبا أو حجاز. وقد ساهم هذا الترتيب "المصطفوي" في جعل التلاوة بناء متماسكاً، ومنحها إطاراً يشد جملها بعضاً إلى بعض.
كان ترتيب المقامات، وفق ما أرساه الشيخ مصطفى إسماعيل، يمنح القراءة رونقاً وتماسكاً، وكان يريح صوت القارئ؛ حيث تبدو انتقالاته النغمية منطقية، وتبدو تلاوته كأنها بناء متماسك، وكلها عوامل تجذب السامع، وتدفع عنه السآمة والملل.
في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، اتسعت مخالفة القرّاء الجدد للقواعد الراسخة، ثم أصبح هؤلاء القراء نجوم ساحة التلاوة، داخل مصر وخارجها. مع دخول الألفية الجديدة، ظهر جيل من شباب القراء مقطوع الصلة تماماً بأسلافه، ولم يكن أمام هذا الجيل قدوة تحتذى إلا قراء السبعينيات والثمانينيات، فلم يسر هؤلاء الشباب على درب مصطفى إسماعيل، وإنما اتخذوا قدوتهم من تلاوات الشحات أنور وسيد متولي وعبد الوهاب الطنطاوي. وبدلاً من الترتيب المنطقي المستقر للمقامات، أصبح القارئ يتلو دقيقة أو اثنتين من مقام البياتي، ثم يقفز منه إلى مقام الراست، بل إلى الدرجات العالية للراست، فجاءت التلاوات مرتبكة تائهة.
لم تخل الساحة من بعض الأصوات المقبولة، لكن الارتباك النغمي أصبح سيد الموقف، فلا بناء محكماً، ولا تماسك بنيوياً، وإنما جمل متناثرة، ربما يكون بعضها جميلاً في ذاته، لكن عند النظر إليها بمقياس "التلاوة المبنية" ذات المعالم الواضحة، نجدها مبعثرة، كأنها أشتات متفرقات، لا صلة بينها إلا الاضطراب والنفور.
وبينما عرف جيل الرواد بقوة "القفلة" وإحكامها، جاءت قفلات القراء الجدد متسمة بالسيولة والإفراط في المدود، مما يؤكد ضعف تحكم القارئ في طاقته الصوتية، وإهماله للأخذ من المصادر القوية، التي كانت يوما ما مصدر إلهام للموسيقيين والملحنين.
وكان من أهم أسباب التراجع في ميدان التلاوة، التخفيف التدريجي لشروط القبول إذاعياً، وضعف قيم الفرز التي عرفت بها الإذاعة المصرية منذ انطلاقها عام 1934 بصوت المقرئ الفذ الشيخ محمد رفعت.
وفي ذاكرة لجان الاختبار، يعرف الباحثون اسم الموسيقار محمد حسن الشجاعي، الذي شغل منصب المستشار الفني للإذاعة، ثم عين رئيساً للجان الاستماع بها. عُرف الرجل بصرامته وتدقيقه الشديد في اختيار الأصوات، سواء كانوا من المطربين، أو القراء والمنشدين.
وقد روى الراحل الشيخ نصر الدين طوبار في حديث إذاعي مسجل، أن صرامة الشجاعي لم تكن تتوقف عند مرحلة اختيار القارئ أو المنشد واجتيازه للاختبارات المطلوبة، بل كانت تتعداها إلى ما بعد القبول والنجاح، بل وتتعدى مبنى الإذاعة إلى الشارع، إذ يؤكد طوبار أن الشجاعي كان حريصاً على سمعة القارئ المعتمد في الإذاعة، فإذا ضبط أحد القراء في الشارع وهو غير مهندم في ملابسه، حذفه من على البرنامج، وأوقف بث تلاواته.
في عهد الشجاعي، رفضت الإذاعة قبول عدد من أصحاب الأصوات الجميلة واعتمادهم قرّاءً للقرآن الكريم، ومنهم الشيخ نصر الدين طوبار، الذي برز اسمه منشداً للابتهالات الدينية. وبعد رحيل الشجاعي في يونيو/حزيران عام 1963، استمرت قيم الفرز الدقيق، ولو بقوة الدفع الذاتي، فرفضت الإذاعة قبول الشيخ سيد النقشبندي قارئاً، بينما احتاج الشيخ محمد محمود الطبلاوي عشر سنوات كي يجد ينتقل صوته عبر الأثير.
كما لم تقبل الإذاعة الشيخ نصر الدين طوبار قارئاً، لم تقبل محمد عمران حتى وفاته، ولا يمكن لأحد أن يعيب على عمران، صوته أو أحكام تجويده، لكن طريقته في التلاوة، وقفزاته المقامية من جملة لأخرى بسرعة، وكثرة استخدامه للسلالم صعوداً وهبوطاً، ولجوئه كثيراً للتتالي النغمي (كروماتيك) جعلت تلاوته أقرب إلى الإنشاد الديني أو أداء قصة المولد.
بعدما انتهى ميراث محمد حسن الشجاعي، عرف ميكروفون الإذاعة أصواتاً في غاية الضعف، وبعضها يقع أثناء تلاوته في نشاز واضح، ولم يعد الاعتماد إذاعياً يعني ما كان يعنيه قديماً من تفوق وإجادة وحسن صوت، بل إن دور الإذاعة في تحقيق الشهرة تراجع إلى حد كبير لحساب وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية. فكل قارئ في أقصى قرية في شمال مصر أو جنوبها أصبح قادراً على عرض تلاوته عبر يوتيوب أو فيسبوك، وفقدت الإذاعة دورها المركزي في الفرز والاختيار.
قديماً، كان "النظام المشيخي" الصارم لا يسمح لقارئ باعتلاء دكة التلاوة من دون أن يتأهل ويُجاز من المشايخ المتقنين، أما الآن فصار ميدان التلاوة يعرف قراءً لا يحفظون القرآن كاملاً، ولا يتقنون أحكام التجويد، ولا يراعون قواعد الوقف والابتداء، بل قد يحطمونها إرضاء لجماهير البسطاء، ونيلاً للاستحسان الرخيص في المحافل.
لقد افتقد فن التلاوة دائماً لأي شكل من أشكال النقد العلمي، وبينما وجدت فنونٌ أخرى، كالشعر والرواية والغناء والتلحين، عملية نقدية مجاورة، فإن فن تلاوة القرآن في مصر لم يعرف يوماً أي عملية نقدية علمية، ما كان له أثر بالغ في حالة التردي التي هوى إليها هذا الفن، وقد ساهم في انعدام النقد تجاه فن التلاوة، أن الأخطاء في تلاوات الأعلام الكبار كانت محدودة جداً، ومطموسة في جلال الأداء وعظمة الصوت.
لكن الأيام أثبتت أن النقد في غاية الأهمية، بل هو ضرورة لازمة للحفاظ على ما تبقى من سمعة التلاوة المصرية، فالسكوت عن الأخطاء المحدودة في تلاوات الرواد الأوائل، نقل هذه الأخطاء في تلاوات الجدد من الهامش إلى المركز، ومن الاستثناء العارض، إلى الأصل الدائم المستقر.
وما نريده من قراء مصر اليوم، بعد الحفظ والإتقان، أن يراعوا أصول التغني بالقرآن واستخدام مقامات النغم في التلاوة، فليس كل أداء نغمي يصلح لقراءة آيات الكتاب، والفرق كبير بين طريقة استخدام المقامات في الغناء الدنيوي، وبين طريقتها في تلاوة القرآن، بل إننا نجد أن كبار الموسيقيين كانوا يضعون فوارق واضحة بين تلحين نص ديني وتلحين آخر دنيوي.
فمن يستمع مثلاً إلى ألحان السنباطي الدينية التي شدت بها أم كلثوم مثل نهج البردة، وولد الهدى، وإلى عرفات الله، سيشعر من اللحظة الأولى، ومع المقدمة الموسيقية، أنه قد دخل في أجواء روحانية، أو حضرة صوفية، أو مجلس ذكر في مولد، فلا قفزات مقامية سريعة، ولا تغييرات إيقاعية رخيصة. وإذا كان هذا هو تعامل الموسيقيين مع نص تغنيه أم كلثوم، فالأولى بقارئ القرآن أن يقر بالفرق بين الغناء والقراءة، وأن يراعيه في تلاوته، وفي تعلمه لهذا الفن الشريف. صحيح أن المقامات هي المقامات، لكن الإكساء النغمي لآيات القرآن يختلف حتماً عن الإكساء النغمي للغناء الدنيوي.
لا بد من أن يراعي القارئ المصري أساليب الأداء المتعارف عليها والمستقرة في مدرسة التلاوة المصرية العريقة، فلا يُقبل من قارئ مصري محترف أن يقرأ بطريقة أهل الحجاز والخليج، ولا أن يقرأ بالسلم الموسيقي الخماسي المنتشر في السودان، ولا بالطريقة الصنعانية المعروفة في اليمن. وله في رصيد التسجيلات الضخم الذي يُقدَّر بعشرات آلاف الساعات رصيد ومعين لا ينضبان للتعلم والتشبع بالأساليب المصرية الأصيلة والقفلات القوية الرصينة.