28 يناير 2024
فليسقط الوطن الذي...
سأكون واضحاً منذ البداية، وأقول: "فليسقط أي وطن يموت شاعر منه في المنفى"، والمناسبة هي وفاة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في المنفى.
والحال، أنه قيّض للعبد الفقير إلى الحرية أن يعايش شاعرين منفيين في عمّان، عبد الوهاب البياتي، وعبد الرزاق عبد الواحد، في حقبتين قمعيتيّن متنافرتين في تاريخ العراق الحديث، وأن يربّت على كتف الاثنين في مقاهي عمان، وينهمر مع دموعهما وذكرياتهما، وحنينهما الممضّ إلى بلدهما الذي خذلهما وأنكرهما، وقذف بهما إلى خارجه، شاعريْن لا كرامة لهما في وطنهما.
عبد الوهاب البياتي، شاعر القصيدة الحديثة الذي يعد أحد المجدّدين في الشعر المرسل، بعينيه المفعمتين بحزن الفرات، كان يتردد إلى مقهى "الهورس شو"، في منطقة الشميساني في عمان كل مساء، بعد أن يستبدّ به الشوق الشفيف إلى الموصل، فيدخل المقهى، بقامته التي هدّها الاغتراب، فيقتعد كرسيّه الأثير، بمواجهة الحاجز الزجاجي. ومن هناك يراقب الأمطار، ويرحل به الحلم بعيداً إلى وطنٍ، خارج حظائر الطغاة وسجونهم، فهو لم يكن على وفاق مع حقبة صدام حسين، ولم يكن يرى فيه غير طاغية أزرى بالبلاد والعباد، في حروبٍ عبثية، وأهدر موارد الوطن وطاقات شبابه، بقرارات فرديةٍ مجنونة، وملأ الأرض رعباً بأجهزته الأمنية، وإعداماته القائمة على النيات، أكثر مما تقوم على الأدلة الدامغة.
كان البياتي مسكوناً بالحرية، ولا يقايضها بالخبز أبداً. ولذا، آثر أن يتنازل عن راتبه الذي كان يصرف له من الحكومة العراقية، مقابل سكوته، على الأقل، عن جرائم نظام الحكم، فلا يتخذ أي موقف معارض منه، خصوصاً أنه شاعر كبير، وذو صوت مسموع، إذا قرر يوماً المجاهرة به، غير أن البياتي انتصر أخيراً لقناعاته، وضرب عرض الحائط بكل "عطايا السلطان"، وراح يجاهر بمعارضته النظام القائم في بلده، الأمر الذي تسبب بقطع الراتب عنه، واعتباره "خائناً" للوطن، فعاش ضائقة مالية، وأوضاعاً صعبة، لولا تدخل شخصيات أردنية نافذة، نجحت بتغطية نفقات اغترابه.
وفيما كان البياتي يرفع لواء المعارضة في عمّان، ويقرأ أشعاره التي تدين طاغية العراق، كانت هناك، في المقابل، قامة شعرية كبيرة، تدعى عبد الرزاق عبد الواحد، تملأ سماء بغداد، بأشعارها الممجّدة للنظام الحاكم في العراق، ومديح حروبه وشخصه وحكمته. كان عبد الواحد لازمة شعرية في افتتاح المرابد الشعرية السنوية، بصوته الجهوري، وقصائده المسبوكة بجزالة ألفاظها وعميق صورها التي تأخذك إلى زمن المتنبي وأبي فراس الحمداني. ولا أجانب صواباً إذا قلت بأن "المربد" لم يكن يحلو بغير عبد الرزاق عبد الواحد، بصرف النظر عن رؤيته السياسية وعشقه صدام حسين، فالرجل كان يصدر عن قناعاتٍ خاصة به، يشاركه فيها عرب كثيرون، شئنا أم أبينا. وفي مقابل مواقفه، كان عبد الواحد الشاعر المدلل عند النظام الحاكم، وتنهال عليه الأعطيات.
باختصار، فيما كان عبد الوهاب البياتي يعاني ضوائق الغربة والمال وثمن مواقفه، ويسرح بعينيه بعيداً في مقهى "الهورس شو"، كان عبد الواحد يتنعّم في بغداد ويقبض ثمن مواقفه، حتى دار الزمن دورته، فسقط النظام الحاكم في العراق، ليتبادل الشاعران أدوارهما، فيستعيد عبدالوهاب البياتي مكانته عند النظام الحاكم الجديد، فيما يصبح عبد الواحد "خائناً"، بعد أن كان "نبياً" في عرف النظام القديم، وليجد نفسه مطروداً إلى عمان، ولأجد نفسي، من جديد، مربّتا على كتف شاعر طريد آخر، بقناعات نقيضةٍ لقناعات الشاعر الأول.
وعلى غرار هذين الشاعرين، مات كثيرون من شعراء العراق في المنافي، جراء مواقفهم السياسية، كبدر شاكر السياب والجواهري. وما بين "النبيّ" والخائن"، نظام حكم، وطاغية، لا يحتملان أدنى موقف معارض.
أعاود القول: ما بين شاعرين عظيمين، كالبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد، يسقط الوطن في اختبار الصفح والحرية، ولا ينتصر غير الطغاة.
والحال، أنه قيّض للعبد الفقير إلى الحرية أن يعايش شاعرين منفيين في عمّان، عبد الوهاب البياتي، وعبد الرزاق عبد الواحد، في حقبتين قمعيتيّن متنافرتين في تاريخ العراق الحديث، وأن يربّت على كتف الاثنين في مقاهي عمان، وينهمر مع دموعهما وذكرياتهما، وحنينهما الممضّ إلى بلدهما الذي خذلهما وأنكرهما، وقذف بهما إلى خارجه، شاعريْن لا كرامة لهما في وطنهما.
عبد الوهاب البياتي، شاعر القصيدة الحديثة الذي يعد أحد المجدّدين في الشعر المرسل، بعينيه المفعمتين بحزن الفرات، كان يتردد إلى مقهى "الهورس شو"، في منطقة الشميساني في عمان كل مساء، بعد أن يستبدّ به الشوق الشفيف إلى الموصل، فيدخل المقهى، بقامته التي هدّها الاغتراب، فيقتعد كرسيّه الأثير، بمواجهة الحاجز الزجاجي. ومن هناك يراقب الأمطار، ويرحل به الحلم بعيداً إلى وطنٍ، خارج حظائر الطغاة وسجونهم، فهو لم يكن على وفاق مع حقبة صدام حسين، ولم يكن يرى فيه غير طاغية أزرى بالبلاد والعباد، في حروبٍ عبثية، وأهدر موارد الوطن وطاقات شبابه، بقرارات فرديةٍ مجنونة، وملأ الأرض رعباً بأجهزته الأمنية، وإعداماته القائمة على النيات، أكثر مما تقوم على الأدلة الدامغة.
كان البياتي مسكوناً بالحرية، ولا يقايضها بالخبز أبداً. ولذا، آثر أن يتنازل عن راتبه الذي كان يصرف له من الحكومة العراقية، مقابل سكوته، على الأقل، عن جرائم نظام الحكم، فلا يتخذ أي موقف معارض منه، خصوصاً أنه شاعر كبير، وذو صوت مسموع، إذا قرر يوماً المجاهرة به، غير أن البياتي انتصر أخيراً لقناعاته، وضرب عرض الحائط بكل "عطايا السلطان"، وراح يجاهر بمعارضته النظام القائم في بلده، الأمر الذي تسبب بقطع الراتب عنه، واعتباره "خائناً" للوطن، فعاش ضائقة مالية، وأوضاعاً صعبة، لولا تدخل شخصيات أردنية نافذة، نجحت بتغطية نفقات اغترابه.
وفيما كان البياتي يرفع لواء المعارضة في عمّان، ويقرأ أشعاره التي تدين طاغية العراق، كانت هناك، في المقابل، قامة شعرية كبيرة، تدعى عبد الرزاق عبد الواحد، تملأ سماء بغداد، بأشعارها الممجّدة للنظام الحاكم في العراق، ومديح حروبه وشخصه وحكمته. كان عبد الواحد لازمة شعرية في افتتاح المرابد الشعرية السنوية، بصوته الجهوري، وقصائده المسبوكة بجزالة ألفاظها وعميق صورها التي تأخذك إلى زمن المتنبي وأبي فراس الحمداني. ولا أجانب صواباً إذا قلت بأن "المربد" لم يكن يحلو بغير عبد الرزاق عبد الواحد، بصرف النظر عن رؤيته السياسية وعشقه صدام حسين، فالرجل كان يصدر عن قناعاتٍ خاصة به، يشاركه فيها عرب كثيرون، شئنا أم أبينا. وفي مقابل مواقفه، كان عبد الواحد الشاعر المدلل عند النظام الحاكم، وتنهال عليه الأعطيات.
باختصار، فيما كان عبد الوهاب البياتي يعاني ضوائق الغربة والمال وثمن مواقفه، ويسرح بعينيه بعيداً في مقهى "الهورس شو"، كان عبد الواحد يتنعّم في بغداد ويقبض ثمن مواقفه، حتى دار الزمن دورته، فسقط النظام الحاكم في العراق، ليتبادل الشاعران أدوارهما، فيستعيد عبدالوهاب البياتي مكانته عند النظام الحاكم الجديد، فيما يصبح عبد الواحد "خائناً"، بعد أن كان "نبياً" في عرف النظام القديم، وليجد نفسه مطروداً إلى عمان، ولأجد نفسي، من جديد، مربّتا على كتف شاعر طريد آخر، بقناعات نقيضةٍ لقناعات الشاعر الأول.
وعلى غرار هذين الشاعرين، مات كثيرون من شعراء العراق في المنافي، جراء مواقفهم السياسية، كبدر شاكر السياب والجواهري. وما بين "النبيّ" والخائن"، نظام حكم، وطاغية، لا يحتملان أدنى موقف معارض.
أعاود القول: ما بين شاعرين عظيمين، كالبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد، يسقط الوطن في اختبار الصفح والحرية، ولا ينتصر غير الطغاة.