عمر فروخ واحد من تلك الأسماء الكلاسيكية القليلة في عالم العرب الحديث ممّن تتّسم بالمعرفة الموسوعية وثقل الوزن في عوالم التاريخ والثقافة التقليدية والأدب العربي والفلسفة وقراءات الفقه والمذاهب. عاش أزْيَد من ثمانين عاماً في طول وعرض القرن العشرين، بدأها ببيروت وأنهاها بها، وكأنها عشقه الأول والأخير. زامل قسطنطين زريق في صفوف المدرسة، ثم غادر إلى أوروبا وأنهى من ألمانيا شهادة الدكتوراه. أعماله الموسوعية اشتملت على الفلسفة والفكر العربي والأدب العربي، وآثاره بقيت في مناهج التعليم وحواليه عقوداً طويلة من الزمن. في العقدين الأخيرين من حقب العرب المعاصرة انقلبت مناخات وأمزجة، وأحيل عمر فروخ وجمهرة عريضة من كلاسيكيي ومفكري ومثقفي "الزمن الجميل" إلى "طي النسيان". ما تأمل به سلسلة "طي الذاكرة"، التي تنشر واحداً من أهم وأوائل كتب عمر فروخ، هو أن تساهم في نقله من النسيان إلى الذاكرة والحضور.
انشغل فروخ ضمن ما انشغل به في السؤال الفلسفي، واندفع نحوه إنسانوياً وعربياً يبحث عن إجابات الأسئلة الكبيرة. انكبّ مع رواد عصره نحو الفكر والفلسفة، "أم العلوم"، بكونها نقطة الانطلاق. ذهب بعيداً وقرأ ودرس ونقد النصوص المؤسسة فيها من زمن سقراط ومن سبقه، ثم أفلاطون وأرسطو، وتوقف مليّاً عند التفلسف الإسلامي وعلاقته بالفلسفة اليونانية. ثم نقد الفلسفة الغربية باهتمام وتقدير. كانت أسئلة التنوير والتحديث والنهضة تقع في قلب اهتمامه، وأفرد فصولاً وكتباً كثيرة في مواجهة سؤال التخلّف. لا يعني ذلك أن إرث فروخ خال من العيوب ومكتمل النزاهة والموضوعية، ذلك أن للباحث المتأمل أن يلتقط انحيازات هوياتية ودينية كانت تُخرج باحثنا عن الرصانة المطلوبة دائماً. لكن ما بقي ويبقى هو ذلك الانشغال القلق الذي احتل اهتمام مفكري العرب ومثقفيهم بالفلسفة في العصر الحديث ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشغل موقعاً مركزياً في سياق سؤال النهضة والنهوض. خبا ذلك الاهتمام ومُنتجه الفكري والفلسفي في العقود الأخيرة، حيث استبيح المشهد الفكري والثقافي من قبل ثقافات سطحية وأصوليات متوترة جلّها يحوم حول نفي الآخر والإجهاز عليه، وليس التأمل في الجذر الإنساني المشترك، أو البحث في المآلات الغامضة والأسئلة الكبيرة. وهنا بالضبط تأتي أهمية "فتح الذاكرة" وعودة عمر فروخ إليها.
ذلك أنه في سياق غافل عن درس الفلسفة، يصير نبش الذاكرة الفكرية والفلسفية القريبة ضرورة قصوى، لما فيها من معاودة نقل تلك الأسماء الكبيرة والمؤثرة إلى طي الحضور والذاكرة بمعية كتبهم ونصوصهم، ودورها في تحفيز العقل والوعي العربيين. وهذا كله يتيح لنا فرصة جديدة للانتصار للفلسفة وضرورة تدريسها وإدراجها في المناهج التعليمية وإعادة اعتبار "أموميتها" للعلوم. من دون أن يتحلى الطالب والمعلم بقدر عميق من الفلسفة، فإنهما يظلان يجذفان في نهر لا ماء فيه. وربما هذا ما كان قد انتبه إليه مؤرخنا الكبير فروخ في كتابه المُعاد نشره بحلة بهية. فروخ أولى اهتماماً مركزياً لكتابة المناهج المدرسية الثانوية وغيرها، لأنه كان على يقين كبير بأهمية الفلسفة في تكوين النشء. بعد كتابه عن الفلسفة اليونانية، أبحر في الفلسفة العربية وكتب "عبقرية العرب في العلم والفلسفة"، في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، والذي يقول عنه رضوان السيد إنه "كتاب صغير... تضخم عبر ثلاثة عقود حتى وقع في آخر نشراته في سبعمئة صفحة". ولا يوازي هذا الكتاب في أهميته الموسوعية إلا السِفر الثاني الذي سطّره فروخ حول "تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون".
يكتب فروخ كيف انتقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية عن طريق نصارى الشام الذين كانوا قد نقلوها أولاً إلى السريانية، لعدم معرفتهم بالعربية، ثم من السريانية ترجمت عبر غيرهم إلى العربية. ويشير إلى أن هذه المسيرة، عبر عدة لغات ومتأثرة بعدة نوازع، أنتجت ترجمات عربية غير دقيقة، وبعضها كان بسبب حميّة النصارى الذين إمّا حذفوا ما لم يتناسب مع الدين من وجهة نظرهم، أو حرفوه. كان لا بد من مضيّ قرون عدة حتى يأتي جيل آخر من الفلاسفة العرب ويطلعوا على الترجمات وينقحوها ويقربوها من الأصل اليوناني. ينخرط فروخ في الجدل التقليدي حول أصلانية الفلسفة العربية أم تقليدها ونسخها لما جاء في سابقتها اليونانية، وينكر زعم آرنست رينان بأن الفلسفة العربية هي تلك اليونانية مكتوبة بأحرف عربية. ينتفض فروخ ويقول: "لا شك في أن هذا مزعم تافه. إذا كان رينان يعني أن العرب لم يعالجوا من الأمور إلا ما عالجه اليونان، فيحق لنا حينئذٍ أن نقول: إن الفلسفة الأوروبية ليست إلا الفلسفة اليونانية مكتوبة بالحرف اللاتيني، وإن الفلسفة اليونانية نفسها فلسفة مصرية أو بابلية مكتوبة بالحرف الإغريقي. إن الحضارات والثقافات تتطور، واعتماد حضارة أو ثقافة على حضارة أو ثقافة سابقة لا ينزع عنها قيمتها ولا قدر الرسالة التي أدّتها".
يقسم فروخ كتابه هذا إلى "كتابين"، واحد عن "العرب والفلسفة اليونانية"، يعرّف فيه الفلسفة، ويتعرض فيه إلى "نهضة الفلسفة اليونانية" و"نضجها" و"انحطاطها" و"تنقله"، والثاني عن "أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة الأوروبية"، ويتعرض فيه إلى "الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى"، و"فضل العرب"، ويتوقف عند "ثلاثة من المفكرين الغربيين في العصور الوسطى تأثروا بالفلسفة الإسلامية".
(كاتب عربي)
انشغل فروخ ضمن ما انشغل به في السؤال الفلسفي، واندفع نحوه إنسانوياً وعربياً يبحث عن إجابات الأسئلة الكبيرة. انكبّ مع رواد عصره نحو الفكر والفلسفة، "أم العلوم"، بكونها نقطة الانطلاق. ذهب بعيداً وقرأ ودرس ونقد النصوص المؤسسة فيها من زمن سقراط ومن سبقه، ثم أفلاطون وأرسطو، وتوقف مليّاً عند التفلسف الإسلامي وعلاقته بالفلسفة اليونانية. ثم نقد الفلسفة الغربية باهتمام وتقدير. كانت أسئلة التنوير والتحديث والنهضة تقع في قلب اهتمامه، وأفرد فصولاً وكتباً كثيرة في مواجهة سؤال التخلّف. لا يعني ذلك أن إرث فروخ خال من العيوب ومكتمل النزاهة والموضوعية، ذلك أن للباحث المتأمل أن يلتقط انحيازات هوياتية ودينية كانت تُخرج باحثنا عن الرصانة المطلوبة دائماً. لكن ما بقي ويبقى هو ذلك الانشغال القلق الذي احتل اهتمام مفكري العرب ومثقفيهم بالفلسفة في العصر الحديث ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشغل موقعاً مركزياً في سياق سؤال النهضة والنهوض. خبا ذلك الاهتمام ومُنتجه الفكري والفلسفي في العقود الأخيرة، حيث استبيح المشهد الفكري والثقافي من قبل ثقافات سطحية وأصوليات متوترة جلّها يحوم حول نفي الآخر والإجهاز عليه، وليس التأمل في الجذر الإنساني المشترك، أو البحث في المآلات الغامضة والأسئلة الكبيرة. وهنا بالضبط تأتي أهمية "فتح الذاكرة" وعودة عمر فروخ إليها.
ذلك أنه في سياق غافل عن درس الفلسفة، يصير نبش الذاكرة الفكرية والفلسفية القريبة ضرورة قصوى، لما فيها من معاودة نقل تلك الأسماء الكبيرة والمؤثرة إلى طي الحضور والذاكرة بمعية كتبهم ونصوصهم، ودورها في تحفيز العقل والوعي العربيين. وهذا كله يتيح لنا فرصة جديدة للانتصار للفلسفة وضرورة تدريسها وإدراجها في المناهج التعليمية وإعادة اعتبار "أموميتها" للعلوم. من دون أن يتحلى الطالب والمعلم بقدر عميق من الفلسفة، فإنهما يظلان يجذفان في نهر لا ماء فيه. وربما هذا ما كان قد انتبه إليه مؤرخنا الكبير فروخ في كتابه المُعاد نشره بحلة بهية. فروخ أولى اهتماماً مركزياً لكتابة المناهج المدرسية الثانوية وغيرها، لأنه كان على يقين كبير بأهمية الفلسفة في تكوين النشء. بعد كتابه عن الفلسفة اليونانية، أبحر في الفلسفة العربية وكتب "عبقرية العرب في العلم والفلسفة"، في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، والذي يقول عنه رضوان السيد إنه "كتاب صغير... تضخم عبر ثلاثة عقود حتى وقع في آخر نشراته في سبعمئة صفحة". ولا يوازي هذا الكتاب في أهميته الموسوعية إلا السِفر الثاني الذي سطّره فروخ حول "تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون".
يكتب فروخ كيف انتقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية عن طريق نصارى الشام الذين كانوا قد نقلوها أولاً إلى السريانية، لعدم معرفتهم بالعربية، ثم من السريانية ترجمت عبر غيرهم إلى العربية. ويشير إلى أن هذه المسيرة، عبر عدة لغات ومتأثرة بعدة نوازع، أنتجت ترجمات عربية غير دقيقة، وبعضها كان بسبب حميّة النصارى الذين إمّا حذفوا ما لم يتناسب مع الدين من وجهة نظرهم، أو حرفوه. كان لا بد من مضيّ قرون عدة حتى يأتي جيل آخر من الفلاسفة العرب ويطلعوا على الترجمات وينقحوها ويقربوها من الأصل اليوناني. ينخرط فروخ في الجدل التقليدي حول أصلانية الفلسفة العربية أم تقليدها ونسخها لما جاء في سابقتها اليونانية، وينكر زعم آرنست رينان بأن الفلسفة العربية هي تلك اليونانية مكتوبة بأحرف عربية. ينتفض فروخ ويقول: "لا شك في أن هذا مزعم تافه. إذا كان رينان يعني أن العرب لم يعالجوا من الأمور إلا ما عالجه اليونان، فيحق لنا حينئذٍ أن نقول: إن الفلسفة الأوروبية ليست إلا الفلسفة اليونانية مكتوبة بالحرف اللاتيني، وإن الفلسفة اليونانية نفسها فلسفة مصرية أو بابلية مكتوبة بالحرف الإغريقي. إن الحضارات والثقافات تتطور، واعتماد حضارة أو ثقافة على حضارة أو ثقافة سابقة لا ينزع عنها قيمتها ولا قدر الرسالة التي أدّتها".
يقسم فروخ كتابه هذا إلى "كتابين"، واحد عن "العرب والفلسفة اليونانية"، يعرّف فيه الفلسفة، ويتعرض فيه إلى "نهضة الفلسفة اليونانية" و"نضجها" و"انحطاطها" و"تنقله"، والثاني عن "أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة الأوروبية"، ويتعرض فيه إلى "الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى"، و"فضل العرب"، ويتوقف عند "ثلاثة من المفكرين الغربيين في العصور الوسطى تأثروا بالفلسفة الإسلامية".
(كاتب عربي)