هل يمكن أن يكون القانون الدولي والمؤسسات الدولية عوناً للفلسطينيين في نضالهم من أجل الحرية والعدالة، باعتباره فضاءً يتسم بـ "الموضوعية" و"الحياد"؟ هنالك تيار واسع من الباحثين القانونيين النقديين يرفضون فكرة حياد القانون الدولي والمؤسسات الدولية، ويذهب البعض إلى القول إنها منتج لحاجات التوسع الاستعماري وإخضاع الدول في فترة ما بعد الاستعمار. ينحط القانون، وفق هذا المنطق، إلى سلاح هيمنة، أو بلغة ماركسية كلاسيكية إلى بنية فوقية تعكس مصالح الفئات المهيمنة في العلاقات الدولية، كما هو حال الدولة في النظام الرأسمالي. ولكن، كما تتمتع الدولة باستقلال نسبي يجعلها موضع صراع لطبقات وفئات اجتماعية متعددة ويفتح الطريق أمام توظيفات متعددة لها، يمكن سحب الأمر على المؤسسات الدولية. بهذا المعنى، لا يخضع القانون الدولي والمؤسسات الدولية لعلاقات القوة بصورة تامة، باعتبارهم مجرد "أداة" ولا يتمتعون أيضاً بالحياد والعدل بعيدا عن تلك العلاقات وفي مختلف السياقات.
استخدم الفلسطينيون المؤسسات الدولية لتحقيق أمرين: الاعتراف بهم وتثبيت وجودهم من جهة، وإدانة ومحاسبة الاحتلال الاستيطاني من جهة أخرى. كان الاعتراف بفلسطين كدولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة في عام 2012 من أهم نجاحاتهم، بما يخص الهدف الأول، فيما لم يتمكنوا من إنجاز الكثير على مستوى الهدف الثاني بسبب تركيبة تلك المؤسسات التي لا تقوم على حكم القانون أو الديمقراطية فقط، بل على علاقات القوة، خصوصا في مجلس الأمن (منذ عام 1972 وحتى 2016، استخدمت أميركا حق الفيتو لحماية إسرائيل من المحاسبة 42 مرة).
مع ذلك، يحاول الفلسطينيون الاستفادة من المساحة الرمادية الموجودة بين "موضوعية" القانون الدولي والهيمنة الغربية المعادية لحقوقهم. ويبدو التوجه الفلسطيني نحو محكمة الجنايات الدولية كأبرز الأمثلة. تعمل محكمة الجنايات على محاكمة الأفراد وليس الدول بتهم جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وتوجه الفلسطينيون للمحكمة لأول مرة في عام 2009 بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولكنها أغلقت التحقيقات لعدم تمتع فلسطين بصفة "دولة". انضمت فلسطين بعد أن حصلت على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة إلى محكمة الجنايات في عام 2015، ومن ثم طلبت في عام 2018 فتح تحقيقات على خلفية العدوان على غزة واستهداف مسيرات العودة. في نهاية العام الماضي، أعلنت المحكمة أن هنالك أدلة وافية تتيح فتح تحقيقات ضد جرائم وانتهاكات إسرائيل.
حاولت دول أوروبية عديدة، منها ألمانيا وأستراليا وسويسرا، استخدام القانون لمنع تطبيق القانون، وهو ما يظهر مجددا الطبيعة التنازعية للقانون الدولي، إذ شككت في عضوية فلسطين كدولة، وجادلت بأن الولاية القضائية للمحكمة لا تشمل "الأراضي الفلسطينية". أما إدارة الرئيس دونالد ترامب، وفي خطوة غير مسبوقة، فقد فرضت عقوبات على محكمة الجنايات الدولية وعلى أعضائها.
يقوم المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي على العنف المستمر والاستثنائي. لا توجد دولة في العالم تحتل ملايين البشر وتعامل ملايين آخرين كمواطنين درجة ثالثة في مناطق حكمها وتقتل المتظاهرين وتقصف المدنيين وتمارس هدم المنازل والتجويع والعقاب والتهجير الجماعي بصورة يومية منذ نشأتها من دون أن يطاولها حتى التنديد من قبل المؤسسات الدولية. محاولة تغيير هذا الواقع ولو جزئياً أفقدت الولايات المتحدة وإسرائيل صوابهما.
تظهر صعوبات حصول فلسطين على صفة عضو في الأمم المتحدة في المقام الأول ومحاولات منعها من الدخول للمؤسسات الدولية، الصراع المحتدم على تلك المؤسسات وعلى توظيفات القانون الدولي، وهو صراع ابتعدت عنه القيادة الفلسطينية تحت الضغوط السياسية أو خاضته باستحياء وريبة. المسألة في غاية الأهمية، إذ انسحبت أميركا وإسرائيل من منظمة "يونسكو" في عام 2019 بعد حصول فلسطين على عضويتها الكاملة، كما انسحبت العام الماضي من البروتوكول الاختياري بشأن حل النزاعات والملحق بمعاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وذلك لتجنب قرارات ملزمة من جانب محكمة العدل الدولية، والتي لجأ إليها الفلسطينيون لتحدي قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس الفلسطينية.
يمكن الاستفادة من القانون الدولي، ولكن تطبيقه وتعريف من يتمتع بحمايته وبالوصول لمؤسساته لا يخضع لتقديرات موضوعية فقط، وإنما لصراع سياسي أيضاً على الفلسطينيين التحشيد على المستويات المحلية والعربية والعالمية من أجل خوضه.