قبل 53 عاماً، وبالتحديد بعد أيام قليلة من حرب الخامس من حزيران عام 1967، كان الحاج جود الله الأقطش، 74 عاماً، يجلس برفقة أقاربه على تلة تطل على الشارع الرئيس، القريب من مفترق "زعترة"، على مشارف بلدة بيتا جنوب نابلس، شمال الضفة الغربية، حينما وصلت آلية لجيش الاحتلال الإسرائيلي ونزل منها جنود ومعهم شاب وضعوا كيساً على رأسه وقيدوا يديه، اقتربوا من حافة الطريق، وأعدموه رمياً بالرصاص، وبعد تأكدهم من وفاته غادروا.
فور انسحابهم، هبط الأقطش ومن معه إلى مكان الحدث، والرعب يدق قلوبهم خشية من عودة جنود الاحتلال، حاولوا التعرف على هوية الشهيد، فلم يجدوا معه أي أوراق ثبوتية، دقائق حتى كان المكان يعج بالعشرات الذين سمعوا صوت الرصاص، تحلق الجميع حول الشهيد، فلم يتعرفوا عليه، وكان القرار بنقله إلى مشارف البلدة، وبقي هناك لأسبوعين، حيث كانت وفود من كل الضفة الغربية، خاصة ممكن فقدوا أبناءهم في الحرب، تحضر في محاولة للاستدلال عليه، من دون جدوى، ليتم دفنه في مكان استشهاده تحت شجرة تين عملاقة، وتدفن معه أسراره.
يقول الأقطش لـ"العربي الجديد": "الشهيد ذو ملامح سمراء، وقدرنا أنه في أوائل الثلاثينيات، لم يكن مسلحاً ولم يكن يرتدي زياً عسكرياً ولا حتى حذاء عسكرياً، قالوا في أول الأمر إنه من الثوار، ثم من الجنود العرب وتحديداً من الأشقاء الأردنيين، فقد كان الأردن يحكم الضفة الغربية حتى احتلالها في حرب حزيران".
ما أثار القصة من جديد، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي شرعت بعملية تجريف في المنطقة لإقامة طريق استيطاني، فخشي الفلسطينيون أن تطاول قبر الشهيد، وجاء القرار بنقل الرفات إلى مقبرة بلدة بيتا.
ورغم أن هوية الشهيد ما تزال مجهولة، إلا أن نقل الرفات، الذي تم اليوم الخميس، حظي بحضور رسمي، بمشاركة السفير الأردني المعتمد لدى السلطة الفلسطينية، ونائب قائد القوات المسلحة الأردنية، وسط تأكيد أردني "أننا نتعامل مع الجثمان بأنه شهيد، سواء أكان أردنياً أو فلسطينياً أو حتى عربياً".
ويشير رئيس بلدية بيتا، فؤاد معالي، إلى أن الخطوة هذه هي تكريم لكل من قدم دماءه رخيصة في سبيل فلسطين، مرجحاً في حديثه لـ"العربي الجديد" أن يكون الرفات لجندي أردني، خاصة أن الجنود الأردنيين استبسلوا في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران، وأوقعوا خسائر فادحة في صفوف المحتلين.
وعن سبب ذلك الترجيح، أوضح معالي أن الروايات المتناقلة تشير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان يقتل أي شخص بلباس عسكري أردني، الأمر الذي جعل المقاتلين في الجيش الأردني يتخفون باستبدال لباسهم العسكري بلباس مدني.
ويتابع "ومع هذا، سيقوم مختصون من الخدمات الطبية الفلسطينية بأخذ عينات من الرفات لإجراء عملية فحص "DNA" لمحاولة التعرف على هوية صاحبه، خاصة أن هناك مئات المفقودين لا تزال عائلاتهم تبحث عنهم ولم تجد أي إجابات".
وكانت القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية، نشرت على صفحتها على فيسبوك في الـ23 من الشهر الجاري، بياناً جاء فيه أن "القوات المسلحة وبالتنسيق مع السفارة الأردنية، تتابع منذ أيام حرص واهتمام أهالي منطقة بيتا، التابعة لمحافظة نابلس، للكشف عن هوية الشهيد المدفون في منطقتهم".
وقال مصدر مسؤول في الجيش الأردني "إن الظروف الصحية الراهنة المتمثلة بجائحة كورونا حالت دون نقل الجثمان في الوقت الراهن، وإن إجراءات نقله من موقعه الحالي إلى مقبرة بلدية بيتا، جاءت للحفاظ على رفات الشهيد، لحين التمكن في أقرب وقت من نقله إلى أرض الوطن، بعد القيام بعمل الفحوصات اللازمة لمعرفة هوية الشهيد".
وأشار البيان إلى أن القوات المسلحة الأردنية نفذت عدداً من عمليات الترميم لكافة مقابر شهداء الجيش العربي، وعملت على توثيقها وتحديدها "لتبقى شاهدة على تضحيات الجيش الأردني خلال المعارك التي خاضها دفاعاً عن ثرى فلسطين".
وتحتضن الضفة الغربية عدة مقابر جماعية لشهداء من الجيوش العربية، سواء تلك التي قاتلت في حرب عام 1948 أو في 1967، مثل مقبرة الشهداء العراقيين على مشارف مدينة جنين، وأخرى شرق نابلس.