فلسطين في القانون الدولي... قرار التقسيم نموذجاً

30 اغسطس 2020
مهاجرون صهاينة في القدس يحتفون بالإقرار الأممي لخطة تقسيم فلسطين (Getty)
+ الخط -

مدخل عام حول البحث في القضية الفلسطينية
لا شك أن تأسيس إسرائيل في 15 أيار/ مايو 1948، محطة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، فكان إعلان عن تحقق الحلم الصهيوني وتجسده في دولة بعد خمسين عاما على المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، كذلك بات هذا التاريخ يرمز سياسياً إلى نكبة الشعب الفلسطيني، التي بدأت قبله واستمرت بعده. لكن هذه المحطة على أهميتها ومركزيتها لا يصح التعاطي معها كلحظة مؤسّسة للقضية. فرغم أن هناك واقعا سياسيا أنشئ إثر ذلك الإعلان إلا أن جذوره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بعقود طويلة.

إن قراءة شاملة للقضية الفلسطينية تقتضي العودة إلى جذور الصراع، والبحث في التراكمات التي انتهت في محطات عدة إلى تغيّرات نوعية، أنشأت كل منها واقعاً سياسياً وقانونياً واجتماعياً جديداً. وهذه القراءة الشاملة ليست سهلة، فهي تستدعي تفكيكاً رجعياً لكل واقع تم إحداثه والتراكمات التي أحدثته، بمعنى الحفر التاريخي المعرفي وفق منهج فوكو، حتى وإن كنا نتحدث هنا عن تاريخ معاصر، فإن كثافة أحداثه، وحجم البروباغندا التي أحاطت به (الصديقة والعدوة)، والتغيرات العديدة التي أُحدثت فيه، جعلت دراسته بمنهجية أنثروبولوجية، تتناول الأبعاد الاجتماعية والثقافية والنفسية إلى جانب السياسية والاقتصادية، مسألة ضرورية للوصول إلى القراءة الشاملة التي نتحدث عنها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القراءات مبتورة السياق التاريخي للقضية الفلسطينية، غالباً ما خرجت باستنتاجات خاطئة إلى حد كبير، ساهمت في سقوط شعارات تحرير كامل فلسطين، وكذلك في فشل مشاريع التسوية الهادفة لإقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية. فكلاهما، شعارات تحرير كامل التراب، والتسوية، استندا إلى تلك الاستنتاجات الخاطئة، فحكمهما سوء التقدير وانتهيا إلى الفشل.

ما يهمنا من هذا المدخل العام في موضوعة المقال، التأكيد على أهمية البحث في طبيعة العلاقة بين السياسي والقانوني، في ما يخص القرارات الدولية، والاتفاقيات والمعهاهدات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والتي تشكل جزءاً من القانون الدولي، وتفكيك المقولات المتعلقة بها، وفق المنهجية التي تحدث عنها المقال أعلاه، للوصول إلى قراءة دقيقة لهذه المسألة.


الفرق بين القانون الدولي والقوانين والتشريعات الوطنية

القانون الدولي كتعريف سريع ومختصر هو جملة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن. وينقسم إلى ثلاثة فروع: القانون الدولي العام، القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني أو قانون الحرب. والفرعان الأخيران ما يهمنا عند البحث في القضية الفلسطينية.

كثيراً ما يتم التعامل مع بنود ومواد القانون الدولي وكأنها تتمتع بخصائص القوانين الوطنية، وتحديداً خاصية العمومية والتجريد، وهذا غير دقيق؛ فالقانون الدولي بكافة فروعه يعبر عن مصالح الدول، وينطبق عليها بشكل نسبي حسب قوتها وتأثيرها الدوليين. والقانون الوطني ينطبق على كافة المواطنين بلا تمييز وبشكل لا يتطلب موافقتهم المسبقة عليه؛ بينما تُشترط موافقة الدول التعاقدية والتعاهدية لينطبق عليها القانون الدولي، كما أن العقوبات في القانون الوطني عامة ومجردة، بينما في القانون الدولي يقررها مجلس الأمن ما يجعلها نسبية، فاحتلال العراق للكويت انتهى بتشكيل تحالف دولي لتحريرها، بينما احتلال التحالف الذي قادته الولايات المتحدة للعراق والذي لم يحظ بمظلة شرعية الأمم المتحدة، مر مرور الكرام ولم تترتب على المحتلين أي تبعات.


لجنة الأنسكوب وتوصية التقسيم
في 15 أيار/ مايو 1947، أي قبل الإعلان عن تأسيس إسرائيل بعام واحد، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 106 بتشكيل لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (الأنسكوب)، بأغلبية 45 صوتاً ضد 7 أصوات هم مندوبو الدول العربية الخمس الأعضاء في مجلس الأمن وباكستان وتركيا، وقد صوت مندوبو كلا المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي لصالح تشكيلها (عوني فرسخ، التحدي والاستجابة في الصراع العربي الصهيوني). 
لم يأت اعتراض الدول العربية مع تركيا وباكستان على تشكيل اللجنة من فراغ، فالأجواء التي سبقت تشكيلها لم تكن مطمئنة، وخاصة أن الانحياز للتطلعات الصهيونية في فلسطين شكل حينها قاسماً مشتركاً بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتُرجم ذلك في رفض الجمعية العامة للأمم المتحدة إدراج إنهاء الانتداب البريطاني وإعلان استقلال فلسطين على جدول أعمال دورتها الخاصة، كذلك رفضت فصل مشكلة اللاجئين اليهود عن القضية الفلسطينية، ما دفع الهيئة العربية العليا في فلسطين إلى مقاطعة اللجنة (محمد عزة دروزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها).

رغم ذلك حضرت اللجنة إلى فلسطين، والتقت ممثلين عن الوكالة اليهودية، على رأسهم بن غوريون، الذي وجه للجنة خطاباً عنصرياً يطالب بدولة يهودية في كامل فلسطين تسكنها أقلية عربية، رغم أن العرب الفلسطينيين كانوا يشكلون ثلثي السكان في ذلك الوقت. بينما قدمت الدول العربية مذكرة للجنة اعتبرت فيها أن "الحل الوحيد الذي يوفر الأمن والاستقرار في المنطقة إنما هو قيام حكومة مستقلة يتمتع فيها العرب واليهود بحقوقهم الدستورية". كما تلقت اللجنة مذكرة من الهيئة العربية العليا عبر الدول العربية أكدت فيها على ما جاء في مشروع الدول العربية الذي قدّم إلى بريطانيا في مؤتمر لندن سنة 1946، من مطالبة بدولة فلسطينية لا بدولة عربية، ويعترفون لليهود بحق الثلث في الجمعية التأسيسية وفي شؤون البلاد كلها. كما دعت عصبة التحرر الوطني في فلسطين (الشيوعيون الفلسطينيون)، إلى إقامة دولة ديمقراطية مستقلة في فلسطين تحفظ فيها حقوق جميع السكان، (عوني فرسخ، التحدي والاستجابة). وفي نهاية المطاف أوصت اللجنة بغالبية أعضائها بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، بينما أوصت الأقلية بدولة اتحادية. وقد انسجمت توصية الأغلبية مع اقتراح لجنة بيل عام 1937، من حيث مبدأ التقسيم واختلفت معها بحدود الدولتين (محمد عزة دروزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها).

قرار التقسيم 181
تشكلت بعد ذلك لجنة أممية ذات مهام خاصة لمناقشة توصيتي لجنة "الأنسكوب"، وخلصت بعد مداولات عدة إلى تبني توصية التقسيم بأغلبية أعضائها. لكن لأن مشروع الأغلبية لم يحز ثلثي الأصوات، أُحيل المشروع إلى الجمعية العامة، وهناك مورست ضغوط أميركية على عدد من الدول التي كانت تعتزم الامتناع عن التصويت لتغير موقفها، وتغير موقف ثمانية منها إلى الموافقة على التقسيم، فيما حاولت الدول العربية تقديم مشروع قرار يقبل بدولة فدرالية ويتراجع عن مطلبها السابق بدولة عربية في فلسطين، لكنها فشلت بطرحه للتصويت بسبب الضغوط الأميركية على الدول الأعضاء، وفي النهاية أصدرت الجمعية العامة قرارها 181 القاضي بتقسيم فلسطين بتأييد 33 دولة، بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، واعتراض 13 دولة وامتناع 10 دول (عوني فرسخ، التحدي والاستجابة).


قرار التقسيم... بين السياسي والقانوني
عطفاً على النقاش الذي بدأ به المقال حول طبيعة القانون الدولي ومواده، من الصعوبة بمكان الفصل في القرارات الدولية الرافدة للقانون الدولي بين السياسي والقانوني. فالمصالح السياسية للدول منشئة للقانون الدولي، والتزامها بقواعد القانون الدولي مرتبط بمصالحها وتوازنات القوى في ما بينها. 

لقد تمكن المشروع الصهيوني من حشد تأييد دولي كبير لإقامة دولته في فلسطين، حتى أنه جمع في ذلك بين النقيضين في ذلك الوقت، السوفييتي والأميركي، ولكل منهما مصالحه السياسية المختلفة في إقامة إسرائيل، فالاتحاد السوفييتي رأى فيها مجتمعاً متقدماً، بمرحلة حضارية على الأقل، عن المجتمعات العربية، وهو التحليل الذي تبناه بالتبعية كثير من الشيوعيين العرب، والولايات المتحدة، وريثة الهيمنة البريطانية في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، رأت في إسرائيل قاعدة استعمارية متقدمة، واتفق الاثنان على أنها حل للمشكلة اليهودية المزمنة في الغرب. 

ورغم كل ذلك، فكون قرار التقسيم ناتجا عن تلاقي مصالح سياسية لغالبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا ينفي حقيقة أنه أصبح جزءاً من القانون الدولي.


ماذا لو قبل الفلسطينيون والعرب قرار التقسيم؟

بالتالي هل كان القرار الفلسطيني والعربي برفض قرار التقسيم خطأً، وخروجاً على القانون؟ بعبارة أخرى ماذا لو وافق الفلسطينيون ومعهم العرب على التقسيم، هل كان سيطبق ويحظى الفلسطينيون بدولتهم على جزء من فلسطين التي سعت قيادتهم إليها طوال أكثر من ربع قرن دون جدوى؟ الجواب يقدمه لنا التاريخ.

فإسرائيل على مدار العقود التي تلت تأسيسها ضربت عرض الحائط بعدد من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة. لا بل إن وجودها اليوم على الرقعة الجغرافية التي تمتد عليها بحد ذاته يعتبر خرقاً للقانون الدولي، لكن هل دفعت أي ثمن لذلك؟ مطلقاً، فلم يفرض عليها أي شكل من أشكال العقوبات بل حافظت على مكانة متميزة داخل المجتمع الدولي، وها هي الولايات المتحدة اليوم تعترف بضمها للجولان السوري المحتل، وتنقل سفارتها إلى القدس، وتقدم رؤية الرئيس ترامب التي تخرق فيها جملة من القرارات الدولية لصالح إسرائيل.

لو قبل الفلسطينيون ومعهم العرب بقرار التقسيم لكانت خرقته إسرائيل كما دأبت منذ تأسيسها وحتى اليوم في التعامل مع القرارت الأممية، فمصلحة الصهيونية في دولة قوية يمكن الدفاع عنها، أهم وأعلى من أي قرار أممي,
من هنا لا بد من التأكيد على أن حق الشعب الفلسطيني بفلسطين يستند إلى عدد من مصادر الشرعية، منها مبادئ القانون الدولي، لكن فوق تلك المبادئ الشرعية التاريخية، والشرعية الشعبية المتمثلة بتمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وحقه بها. 

الوجه الآخر لقرار التقسيم
لا شك أن قرار التقسيم أوقع ضيماً كبيراً بالشعب الفلسطيني، لكنه من أحد جوانبه يعكس صمود هذا الشعب، وفشلا جزئيا للمشروع الصهيوني. فالصهيونية سعت منذ بداية مشروعها في فلسطين إلى الوصول لأغلبية سكانية يهودية، معتبرة أنها المدخل لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد عبر عن ذلك مبكراً ثيودور هرتزل في يومياته حين قال "نريد فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا الخاصة، وحكماً يهودياً خلال تلك الفترة، بعد ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم الآن بين مصر والسلطان، وما أن يصبح السكان اليهود في منطقة ما ثلثي مجموع سكانها، حتى تصبح الإدارة اليهودية سارية المفعول على الصعيد السياسي، بينما تعتمد الحكومة المحلية دائماً على عدد الناخبين في المنطقة أو المحلة" (سهيلا الشلبي، المشروع الصهيوني وبدايات الوعي العربي لمخاطره). كان هرتزل يحلم بغالبية يهودية تصل إلى ثلثي السكان، فتم إعلان إسرائيل وثلثي سكان فلسطين من العرب، وكانت النكبة وتهجير السكان ضرورية للوصول إلى الأغلبية المنشودة، ومن هذه الزاوية، وبوعي هذا المبدأ الصهيوني المؤسس لدولة إسرائيل، نستطيع أن نفهم بشكل أوضح لماذا حدثت النكبة. كذلك وبوعي ذلك المبدأ يمكن استنتاج أن تسوية على قاعدة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، كما يرغب دعاة حل الدولتين، لا يمكن أن تتم أو تقبل بها إسرائيل، كذلك لماذا يبقى وجود إسرائيل، مهما اختلت موازين القوى في المنطقة، قلقاً.