فلسطين الشتات... لاجئون يهربون إلى "المسالخ الجميلة" (8-8)

22 مايو 2018
في ألمانيا (بوريس روزلر/ فرانس برس)
+ الخط -


يتوهم اللاجئون الفلسطينيون إذ يخاطرون بأرواحهم ليصلوا من فلسطين وجوارها إلى دول العالم المختلفة أنّ حياتهم ستكون أفضل فيها، لكنّهم يواجَهون بمصاعب قد تمنع عنهم الحصول حتى على لقمة العيش. وصل الأمر في بعض الدول إلى رفع الأسلاك في وجه الفلسطينيين، والتعامل معهم بعنصرية يمينية أعادت إليهم مشاعر انعدام الأمان التي لطالما اختبروها سابقاً، سواء في ظل الاحتلال الإسرائيلي أو في مخيمات الشتات في الدول العربية. وفي ما يأتي الحلقة الثامنة والأخيرة من ملف "فلسطين الشتات"...


لا تغطي النجاحات الفردية التي حققها لاجئون ولاجئات فلسطينيون الانكسارات التي أحاقت بالألوف، وعشرات الألوف ممن غادروا مستقراتهم نحو المنافي في أوروبا وأستراليا والأميركيتين، فلا هم استطاعوا تأسيس حياة جديدة نقيض حياتهم الأولى، ولا حافظوا على بقائهم في البلاد العربية مع كلّ ما فيها من مرارات وقهر.

هنا نتحدث عن حشود وجموع كبرى من الناس. وبالطبع فالنجاح والفشل أمران نسبيان دوماً، لكنّ الملاحظة أنّه كلما زادت مقومات التعليم والتأهيل وثقافة الانفتاح وتوفر رأس المال، أو مبلغ يمكِّن من الصمود، لا سيما في عصر العولمة، زادت الفرص. ويبقى أفراد قلائل ينجحون نسبياً رغم انتمائهم إلى هذه الفئة المغلوبة على أوضاعها.

وهم

يتوهم كثيرون أنّهم بمجرد مغادرتهم الدول العربية ستفتح أمامهم أبواب الفردوس الموعود، لكنّ الواقع الفعلي خلاف هذا التصور، فالدول الأوروبية متباينة لجهة القبول والتعامل مع طالبي اللجوء أو الذين يدخلون بلادهم عنوة. يصل هؤلاء براً أو بحراً إلى هذه الدول وهم مضرجون بالحزن على من فقدوهم في البحر أو خلال رحلة عذابهم، وهذا جرح جديد، يضاف إلى جرح ترك الأهل والأصدقاء والبيت والصحبة وراءهم. لكنّ الجرح الذي يكسر أفئدتهم يظل يتمثل في كيفية التعاطي معهم كبشر شاء حظهم العاثر أن يضطروا إلى ركوب المغامرة والمجيء قسراً، إذ تختلف طريقة الدول وإدارات ومكاتب الهجرة في التعاطي مع هؤلاء اللاجئين القادمين إليهم من دون دعوتهم أو موافقتهم.

هناك دول عديدة أقامت الأسلاك الشائكة في وجوههم لمنعهم من دخول أراضيها، وهكذا انتقل هذا اللاجئ الفلسطيني من أسلاك شائكة تمنع عليه حقه في وطنه، إلى أسلاك شائكة تنتصب أمام مستقره المحتمل أو وطنه المرجو. أكثر من ذلك تعرّض عشرات بمن فيهم نساء وأطفال إلى اعتداءات جسدية ونفسية، بعضها مارسته أجهزة الأمن، وبعضها الآخر يمينيون متطرفون. ويحدث أن يوضع اللاجئون في مبانٍ فارغة لا خدمات فيها، من دون أن يقدم لهم الطعام والشراب والثياب الملائمة، فيعانون مع أطفالهم الجوع والبرد. العديد من الدول لا تمنحهم من المساعدة والعون ما يقيم أودهم ويطعم أطفالهم. الدول الأخرى تعطيهم القليل وهو غير كاف.

حتى لو تم قبولهم وتأمين مساكن لهم عليهم أن يدفعوا فواتير المياه والكهرباء وغيرها من نفقات ليست بسيطة وهم لم يستقروا بعد. كلّ هذا والعمل لم يتوفر بعد بسبب حاجز اللغة واشتراط اجتياز حلقات دراسية للتواصل وتدريبية لمزاولة مهنة ما. يعمد كثيرون إلى العمل في السوق السوداء (من دون الأوراق القانونية اللازمة) لتغطية مصاريفهم الضرورية. وهنا يقعون ضحية شراهة أرباب عمل يرغمونهم على تمضية لا أقل من 12 ساعة عمل لقاء أجور زهيدة. الموافقة على عمل اللاجئ وتأمين البطاقات التي تسمح له بمزاولته تحتاج إلى مدة قد تمتد لحوالي نصف العام أو أكثر، وإذا حدث وحصل على إجازة العمل يحسم من المبلغ الذي يتقاضاه كإعانة ما يحصل عليه من أجر، ويصبح ملزماً بدفع بدل إقامته في مركز اللجوء.

علم فلسطين في باريس (أوريليان موريسار/ Getty) 


الحصيلة أنّ اللاجئين من فلسطينيين وعرب وأفارقة وأفغان وغيرهم يعيشون حياة الفاقة وعلى حافة الجوع، إن لم يكونوا يعانونه. هذا في الدول التي تقدم لهم مساعدات، أما الدول التي لا تقدمها فهنا الطامة الكبرى، باعتبار أنّ عليهم أن يجدوا الطرق الملائمة التي يستطيعون من خلالها الحصول على طعامهم وشرابهم وإقامتهم، ولا ينقذهم من كارثية مثل هذا الوضع سوى المساعدات التي تقدمها منظمات إنسانية توزعها عليهم بعد أن تجمعها من فاعلي الخير والأسر. ومثل هذا العمل تتصدى له المنظمات اليمينية التي ترى في المهاجرين خطراً على صفاء أعراقها وتهديداً لوجودها واستقرار مجتمعاتها. وقد ساعدت عمليات "داعش" ومن لفّ لفه من الجماعات الإرهابية في تنامي مثل هذا الشعور، الذي انعكس وبالاً على العرب والمسلمين لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود، فلسطيني أو غيره. ومن المعروف أنّ تأمين الضروريات الملحة مهمة عسيرة وسط ارتفاع أسعار الحاجيات مهما كانت بسيطة وأساسية.



باختصار، يمكن القول إنّ العديد من الدول الأوروبية لا يمنح معونات (إسبانيا وإيطاليا والمجر وجمهورية التشيك وبولندا وبلغاريا)، ومن تمنحها لا تكفي (ألمانيا، فرنسا، هولندا، بريطانيا، الدنمارك). هذا من دون أن ننسى تلك الدول التي تمنع أصلاً وفي الأساس وصولهم إليها مثل الولايات المتحدة الأميركية وغيرها.

صدمة

وباعتبار أنّ ما ورد أعلاه ينطبق على كلّ اللاجئين نعود إلى اللاجئين الفلسطينيين إلى بلاد الاغتراب وهم عدة فئات، ويرتبط مثل هذا الوضع بثلاث موجات منهم على الأقل: فئة قديمة باتت أكثر رسوخاً واندماجاً في مواطنها الجديدة وهذه يمكن تقسيمها إلى شرائح أيضاً تبعا للعلاقة مع قضيتها وأهلها. وفئة وسطى وصلت في غضون العقدين الماضيين، وهذه أكثر فقراً وأقل اندماجاً من سابقتها، لكنّ أجزاء منها على الأقل باتت مؤثرة في موطنها الجديد بعد امتلاكها ناصية اللغة، ومقومات الحضور في المجتمع بنتيجة تطور أوضاعها. وثالثة وصلت أخيراً مع طوفان الهجرة الحديثة تعاني الأمرين للتكيف مع المستجد عليها من عوالم. لكنّ هناك ما هو مشترك بين الفئات الثلاث، وهو معاناة الصدمة النفسية والثقافية التي تصعق كلّ مهاجر ومهاجرة أيّاً كانت هويته.

لاجئة فلسطينية في لبنان (أنور عمرو/ فرانس برس) 


تجاوز هذه الصدمة له عوامله العديدة. بالنسبة للفلسطيني الذي جار عليه، خصوصاً في العقود الأخيرة، الأخ الشقيق قبل العدو، فهو يهاجر من دون كبير أمل بالعودة من حيث انطلق سواء أكان لبنان أو سورية أو الضفة أو غيرها. وعليه، فهو يسعى بكل ما أوتي من إصرار على تحقيق شيء ما. وهذا الشيء لا يتحدد بالنجاح المادي فقط، بل الأهم منه الهوية وجنسية يفتقدها بين ظهراني أشقائه ويحصل عليها من بلد المقصد. أحد الأصدقاء قال إنّه لن يعود حتى في زيارة إلى أهله وأقاربه قبل أن يكون قد حصل على جواز سفر الدولة المعتبرة - تبعاً لتعبيره - التي لجأ إليها، و"عندها سينظر إليّ ضابط الأمن في المطار نظرة احترام بسبب الجنسية التي أحمل". احترام للجنسية وجواز السفر الجديد بعد جواز سفر اللجوء الذي سبق وحمله وتسبب له بالاحتقار والمهانة من أبناء جلدته.



بالحديث عن الصدمة النفسية أو الثقافية فهي بديهية في مثل أوضاع الفلسطيني المعذب. فبعد مرحلة اللجوء من دياره في فلسطين، والإقامة في مخيم أو تجمع يهجر الآن ذاكرته الجماعية التي تمنحه الشعور بالانتماء إلى مكان حتى ولو كان عبارة عن قرية أو مدينة عربية، رغم أنه يعيش بعيداً عن الأرض التي تحدر منها أبوه أو جده، والتي ارتبط بها رغم أنّه لا يعرفها، من خلال الحكايا والأساطير والقصص وتضخيم الأنا المجروحة وصورة الوطن والقرية المثالية والرومانسية التي قد لا تتماشى مع واقع الحال.

مناصرة للفلسطينيين من روما (Getty) 


الفلسطيني الذي كان يعيش وسط جماعته ينسلخ عنها بالشتات الجديد، ويتحول فرداً لا يملك الكثير من العناصر التي تساعده على خوض غمار تجربته الجديدة في بلاد غير بلاده، ومنظومات غير ما تعوّد عليه في البلاد التي توهم أنّه استقر فيها، فإذا به يكتشف أنّها آوته فترة من الزمن ثم لم يعد باستطاعته التحمل بعدما ضاقت به السبل وافتقد العيش البسيط كإنسان يستحق الحياة فقذفته بعيداً عنها. ثم تأتي صدمة اللغة وهي بالفعل صدمة الصدمات ، فاللغة ليست فقط أداة تواصل بالنسبة له، بل هي براءة الانتساب إلى الجماعة والأهل، جماعته التي عاش في كنفها، إنّها شبه كينونته ووجوده، من خلالها يتفاعل مع هذه الجماعة التي تقدم له إلفتها وشبكات أمانها المتعددة التي يستطيع من خلالها التغلب على مآسيه المتراكمة. خارجها هو عارٍ من الحصانات والحمايات التي يتحصن بها. الآن هو في مهجره الجديد يفقد المكان الذي تعوده، والأشخاص الذين تفاعل معهم وارتبط بهم وتعامل معهم ونسج علاقاته بهم، حتى الذاكرة التي جمعته معهم باتت مشروخة إلى هذا الحد أو ذاك، وهي تثقل عليه أكثر مما تساعده.



المعضلة الكبرى أن لا أفق مرئياً لهجرته، كالتي يحددها المغترب الذي يملك وطناً يرجع إليه سواء أكان عربياً أم غير عربي. يحمل هذا المغترب بلاده كحائط أخير يلجأ إليه إذا ما أعيته الظروف ويقفل راجعاً ليستند إليه. أما اللاجئ الفلسطيني المبحر في رحلة الشتات فيحمل معه الشعور بالانتماء إلى الأرض والقضية المستحيلين وفقدانهما في الوقت نفسه. هو يعرف أنّ البيئة الطاردة التي خرج منها مكرهاً، قد لا تعاود استقباله ثانية، حتى ولو سجل نجاحه في سجلات الجماعة الجديدة التي انتسب إليها. هو يدرك أنّ عليه الاندماج في ثقافة وحياة المكان الذي بات مستقره، لكنّه يعرف تماماً أنّه الآن شديد الاختلاف عما سبق وعاشه، ومن الصعوبة عليه أن يتعود حياته في المكان الذي وصل إليه بالسهولة التي يتصورها البعض. الأسئلة والتحديات التي تطرح عليه متداخلة. وهي تتعلق بالانصهار في بوتقة مختلفة أواصر ولغة وديناً وثقافة وعلاقات وتبادلات وسوق عمل. لذلك، يرى اللاجئ الجديد أنّه عندما أخذ قراره بتلك الرحلة المجنونة إنّما ذهب بقدميه إلى "مسلخ جميل"، ينتزع منه كيانه مقابل الطعام والشراب والطبابة وأمنه الشخصي والعائلي، لكنّه في الوقت نفسه يأخذ منه نسغ روحه، وذاكرته وماضيه بكل ما فيه من حنين وشوق ورغبة في الحفاظ على روابطه به.

عزلة

كثيرون لا يستطيعون أو لا يملكون المرونة الكافية لخوض التجربة حتى مداها، وبناء نمط من التوازن بين ما كانوا عليه وما باتوا فيه، أو ما سيصيرون إليه، لذلك ينكفئون عن الانخراط في المجتمعات الجديدة، وينغمسون في عزلتهم ، وإذا ما عثر على إحدى الجماعات الدينية المغلقة يلجأ إليها باعتبارها مأواه، وغالباً ما تكون قاعدتها المسجد كمكان أليف له وسبق له أن اختبر تجربته الروحانية. وفيه يجري اقتناصه وجذبه إلى مدارها. الاحتمال الممكن الآخر هو العودة إلى التشرنق في أحضان الأسرة، مبتعداً ما أمكنه عن دورات وفرص الحياة التي يمكن أن تتاح له في حال نجح في اجتياز "سباق المسافات الطويلة " المفروض عليه.



أوضاع النساء أكثر قسوة من تلك التي تواجه الرجال، فهن يعانين من عزلة مضاعفة، خصوصاً إذا ما كنّ من ذوات الثقافة الدينية، حيث لا يجدن في المجتمع حولهن سوى مجتمع انحلال وتهتك يكاد يلتهم أرواحهن وأطفالهن في المدارس والشوارع والصداقات، لذا يعمدن إلى التقوقع في المنزل والتوحد والبطالة عن المساهمة في عمل مفيد يدر عليهن دخلاً وينمي شخصياتهن، ويمنحهن حضوراً في الحيز العام ويفتح آفاقهن. وبعد فترة قد تطول أو تقصر يفقدن إمكانية التواصل مع أبنائهن وبناتهن باعتبار أن هؤلاء باتوا في عالم آخر تشربوه من بيئاتهم المدرسية وصداقاتهم. مثل هؤلاء ذكوراً وإناثاً يفقدون القدرة على لعب دور إيجابي على الضفتين، الضفة التي قدموا منها وعليهم واجبات إزاءها وهي بحاجة إلى جهودهم ودعمهم. والضفة التي وصلوا إليها والتي عليهم التفاعل معها والتأثير بها وامتلاك حرياتهم وقراراتهم وقدراتهم على العمل والإنتاج فيها، بدلاً من العيش على الإعانات التي تقدم لهم، من دون أن يفيدوا من الفرص التي تتاح أمامهم، وهي حقيقية ومفتوحة إلى هذا الحد أو ذاك بعد اجتياز حاجز اللغة.

بين نارين، يكتوي اللاجئ الفلسطيني فهو مشرّع الصدر أمام نار الاحتلال الصهيوني، ونار أشقائه الذين قد يفوقون الأعداء قسوة، وخياراته تكاد تنحصر في أن "يطفر" على سطح هذا الكوكب علّه يجد أرضاً تؤويه و"مسلخاً جميلاً"، مع أنّه يعلم علم اليقين أنّ أرضه هي الوحيدة التي يريدها من دون سواها مهما كان ثمن العودة إليها غالياً وعصيّاً.

*باحث وأستاذ جامعي