28 اغسطس 2024
فلسطينيو 48.. العنف الداخلي وسيلة مجانية للسيطرة الاستعمارية
يحتار الفلسطينيون الناجون من النكبة، الباقون في الأرض المحتلة عام 1948، إزاء كيفية حماية أنفسهم من العنف الداخلي الذي يضرب مجتمعهم بلا توقف في السنوات الأخيرة. لم يكد يمر عامان أو ثلاثة، بعد هبّتهم الشعبية العارمة الموحّدة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، ردًا على وحشية إسرائيل في قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حتى وجدوا أنفسهم يحترقون في عنفٍ داخلي غير مسبوق، ما جعلهم، تحديدا نخبهم، ينشغلون مجدّدا في تفكيك بنية العنف المؤسسية التي يقوم عليها الاستعمار، ومحاولة فهم علاقة هذه البنية الكولونيالية بظاهرة العنف التي تضرب المجتمع.
ومنذ ذلك الحدث الوطني الكبير قبل 18 عاما، والذي قتلت فيه إسرائيل 13 متظاهرًا عربيا في الداخل، وجرحت مئات، وصل عدد ضحايا العنف الداخلي إلى 1263 حتى تاريخ 6\5\2018. وفِي الأشهر الثلاثة الأخيرة، قُتل أيضاً مواطنون عرب عديدون. ولا يكاد يمر يوم من دون حادث قتل أو شجار أو إصابة شخص بجروح، ما يُعمق مشاعر الإحباط واليأس وفقدان الأمان والشعور بالعجز. ولا يشمل هذا العدد بالطبع عشرات المواطنين العرب الذين قتلتهم شرطة إسرائيل في حوادث منفصلة فردية.
أغلب غضب الناس والقادة ونشطاء العمل الأهلي موجه إلى شرطة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، شرطة المستعمر، ففي الظاهر، وتجسيدا لحالة التناقض التي يعيشها، يطالب الفلسطيني، حامل المواطنة الإسرائيلية، شرطة الدولة التي تضطهده بالعمل على وقف العنف، وجمع السلاح من المواطنين العرب، وهي ظاهرة غير مسبوقة، خصوصا أن نظام الأبارتهايد لم يكن يتسامح مع أي قطعة سلاحٍ يمكن أن يحملها المواطن الفلسطيني. وكانت الأجهزة الأمنية للدولة الاستعمارية الجديدة بعد احتلالها القرى العربية قد جرّدت سكانها من السلاح، من خلال حملةٍ عنيفةٍ وعدوانيةٍ، استمرت سنوات بعد النكبة، وحتى فترةٍ قريبةٍ لم تكن حتى لتمنح رخص بنادق صيد خفيفة سوى لمتعاونين معها على الأغلب. وعندما تَشُكّ أجهزة المخابرات بوجود سلاح الذي من الممكن أن يوجه ضد أهدافٍ إسرائيلية، فإنها تغزو البلدة بكتائب من قوات الشرطة والجيش والمخابرات، وتستمر أحيانا أياما. وهذا النهج متبع حتى اليوم والأمثلة كثيرة. وهذا الجهد الأمني تحديدا هو ما يعزّز اعتقاد المواطن بوقوف المؤسسة الصهيونية وراء انتشار السلاح والعنف، لأن التساهل إزاء انتشار العنف، وتشجيع انتشار السلاح، ذو تكلفة قليلة للسيطرة على الفلسطينيين من خلال تحويل العنف إلى الداخل.
لذلك بدأ وعي شعبي جديد يتشكل أخيراً، يربط انتشار السلاح وعدم القبض على معظم المجرمين بنوايا نظام الأبارتهايد الذي يعمل على نشر التدمير الاجتماعي الداخلي، كجزء من نظام السيطرة والضبط المعتمد منذ النكبة. ويعتقد الناس أنه لو أرادت شرطة الأبارتهايد جمع السلاح والقبض على المجرمين، لفعلت ذلك بنجاح كبير. يأتي هذا الوعي الجديد، بعد أن ساد فترة طويلة بين الناس غضبٌ على الذات، أي على الفاعلين المباشرين، الأفراد، أو مجموعات الإجرام وحدهم.
ومع ذلك، ما انفكّت الحيرة تقض مضاجع هذا الجزء من شعبنا، أفراده، نخبه، ومؤسساته، إذ لم يتوصل بعد إلى المعادلة التي يمكن أن يعتمدها في مواجهة هذا الواقع المركّب، والخطر، والمرشح للتفاقم، والتردّي، بعد أن استنفدت المعادلات السابقة دورها وتأثيرها، فالنخب القيادية أخفقت، حتى الآن، في تعميم الفهم العلمي لنمو ظاهرة العنف الداخلي واتساعها، على المستوى الشعبي، بل حتى بين المؤسسات الفلسطينية؛ التربوية، والتعليمية، والاجتماعية، وإلى حد كبير بين القيادات الحزبية. وثانيا، أخفقت في التطور إلى قيادة قادرة على القيادة والتوجيه، وقيادة نضال سياسي شعبي مؤسّس على استراتيجية عمل متماسكة. ويُشكل التركيز على اتهام الشرطة وحدها تعويضا عن الإخفاق الذاتي: أولا، القصور في فهم جذور الظاهرة. وثانيا، في تقديم واعتماد استراتيجية عمل شاملة لمواجهة هذا الواقع.
قد يكون الحديث، بالنسبة للمواطن في المحيط العربي الذي يكتوي بعنف وحشي يفوق الخيال، عن العنف في أوساط مليون ونصف مليون عربي في فلسطين، ليس ذا أهمية كبيرة مقارنة بالأهوال التي يعيشها تحت أنظمة متوحشة، بل قد يقول قائل منهم، بل كثيرون، إن وضعكم يظلّ أقل سوءًا بكثير، لكن الأمر ليس على هذا النحو، ولا يجوز الاكتفاء بأن إسرائيل أكثر ذكاء في استخدام العنف، حتى لو كانت الأنظمة العربية أكثر وحشيةً، فكلاهما متوحش، والنضال ضدهما واجب أخلاقي، والعدالة لا تتجزأ، والظلم واحد، وإن تعدّدت أشكاله ومصادره. وبالتالي، الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، مثل أي مجموعة فلسطينية أخرى، أو أي شعب عربي آخر، تُحركهم حافزية البقاء، وتوفير الحماية للجماعة والفرد، والتطوّر، وتأمين حياة إنسانية طبيعية. كما لديهم تناقضاتهم، ليس فقط مع نظام الاستعمار، بل أيضاً فيما بينهم. وتفرقهم المصالح، كما تفرّقهم الأيديولوجيات، واختلاف مفهومهم لخصوصيتهم ولموقعهم في الدولة العبرية، وعلاقتهم مع شعبهم، ومع مستقبلهم، ومستقبل الكل الفلسطيني.
وتحتدم السجالات في هذا الخصوص، وتختلط كثيرا الأمور عليهم بخصوص تحديد محاور انتمائهم وكيفية تحصيل حقوقهم. ومع تغوّل المشروع الصهيوني، وتعمق إفرازاته، السياسية والجغرافية، والثقافية والاجتماعية، والنفسية، تتعمق أزمة البحث عن المخرج. وتتجّلى هذه الإفرازات في تفكّك المنظومة الأخلاقية مثل ضعف التعاضد والتضامن، وشيوع الفردانية، على مستويي النخب والفرد، فمرض النجومية، وتحويل الموقع القيادي إلى امتياز شبه ثابت، والانعزال عن العيش بين الناس، أحد أشكاله البائسة. أما تقوقع الأسر على نفسها، والهوس في تحقيق نجاحات تعليمية، وضمان الوظيفة، بمعزل عن التربية الأخلاقية والوطنية، وعن الالتزام تجاه المجتمع، فقد بات مظهرا بنيويا في المجتمع. طبعا، هناك أكثر من خمسين في المائة يعيشون تحت خط الفقر، والذين تتركز أولوياتهم في ضمان النجاة، وتوفير لقمة العيش، وسداد القروض والديون. طبعا هذا ما يفسّر بعض أسباب انحسار النضال الشعبي بصورة حادّة، واختزال العمل السياسي، أو اللاسياسي، في نخبةٍ قياديةٍ تحتل رأس الهرم في الهيئات التمثيلية المشتركة، مثل لجنة المتابعة العليا (مظلة للأحزاب ورؤساء السلطات المحلية تشكلت أوائل الثمانينيات) والقائمة المشتركة التي تضم كل أعضاء الكنيست الممثلين للأحزاب التي تخوض انتخابات الكنيست (تشكلت عام 2015)، واللجنة القُطرية للسلطات المحلية العربية (تشكلت في أواسط السبعينيات).
ويسود، في السنوات الأخيرة، قلقٌ شديد، وخوفٌ من المستقبل، في أوساط هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي ظل في منأى عن نتائج الحروب العدوانية الإسرائيلية الدموية التي شُنّٰت ضد الشعب الفلسطيني ودول عربية وحركات مقاومة، فلم يطاوله ما طاول بقية شعبنا، ووطننا العربي، من تدمير وفقدان لأعداد هائلة من الشهداء والجرحى. وقد بات يشعر بقلق وجودي، خصوصا بعد تمرير قانون القومية، الاستعماري، وما يحمله هذا القانون من مخاطر جديدة على وجودهم الفيزيائي. وازداد هذا الجزء من الشعب الفلسطيني قلقا، وربما تمسّكا بواقعه الخصوصي داخل الكيان الصهيوني، بعد تدمير الثورات العربية التي قمعت بوحشيةٍ يعجز أكبر مبدعي الخيال الأدبي عن تصورها.
وكانت تجربة توحيد الأحزاب السياسية العربية في قائمة انتخابية مشتركة، عام 2015، من أهم المبادرات التي رأى فيها بعضهم، وكاتب هذه السطور منهم، وصفة لتفادي وصول الانقسامات السياسية والدينية والطائفية من دول الثورات العربية، خاصة سورية، ومن تجربة الانقسام الفلسطيني الكارثي بين حركتي فتح وحماس، إلى ساحة فلسطينيي الـ 1948، بل أهم من ذلك، رأينا في هذه التجربة إحدى روافع تطوير دور هذا الجزء من شعبنا في النضال الفلسطيني الوطني العام، وفي مواصلة مواجهة الصهيونية، باعتبارها حركة كولونيالية عنصرية، بعد أن أغلق اتفاق أوسلو باب الصراع الأيديولوجي ضدها. وقد نظر اليمين الصهيوني، ولا يزال، إلى هذه التجربة، على الرغم من تعثرها وتآكلها، نظرة شكّ وهجوم متواصل.
أفرغت هذه التجربة، وإنْ ما زالت قائمة شكليا، من مضمونها، بسبب سلوك قوى سياسية لم تكن أصلا مقتنعةً بمضمونها، المتمثل في تنظيم هذا الجزء من شعب فلسطين، قوميا، واختزلتها في مكاسب حزبية ضيقة. لم تستطع هذه القوى التقليدية تحديدا، حتى اللحظة، على الرغم من المتغيرات الجذرية التي طرأت على بنية الوعي الوطني العام، تجاوز مفهومها التقليدي، ولا تزال تعتقد أن التعاون والتحالف مع اليسار الصهيوني، الليبرالي، أهم من تمكين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
.. ما يمرّ به المجتمع الفلسطيني، داخل الخط الأخضر، من عنف متسارع ومتسع، له صلة عضوية بالسياق الاستعماري. والتحليلات العميقة التي يقدمها بعض الخبراء، المستندة إلى الخلفيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة، لم تتجذّر بعد في أوساط المؤسسات القيادية، السياسية والتعليمية والاجتماعية، ناهيك عن وصولها إلى الناس العاديين. ويعيق هذا القصور التفكير الصحيح الذي يقود إلى اشتقاق السبل المناسبة لمواجهته.
ما يعيشه فلسطينيو الـ48 اليوم، وما يطبع كثيرا من أوجه حياتهم، هو حصيلة النكبة، والسياسات الاستعمارية، المتمثّلة في نهب الأرض، وتدمير الزراعة العربية، وإخضاع الفلاحين الفلسطينيين لعلاقة تبعية كاملة بالاقتصاد الصهيوني، وفِي حجب تطور البلدات العربية التي تم تحويلها إلى غيتوات محاصرة من المستعمرات اليهودية، بدون زراعة، بدون صناعة، وبدون مسطحات بناء كافية للاستجابة مع متطلبات النمو الطبيعي.
كان الهدف، منذ البداية، تحويل البقية الباقية من الشعب الفلسطيني الذين فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية إلى أقلية ضعيفة مفكّكة، وتابعة، ومشوّهة حضاريا وطنيا، ومهددة بصورة دائمة بالطرد. والعنف المستشري هو نتاج انسداد الأفق أمام هذا الجزء من شعب فلسطين. لقد تضاعف عددهم مراتٍ، فوجد عشرات آلاف الشباب الطريق مسدودا أمام تقدّمهم في الحياة. ومع توسع حالة الوعي السياسي والوطني بين هذه الأجيال التي لا تكتفي بالفتات، وتعلمت كيف تقارع المستعمر لانتزاع حقوقها، اليومية والقومية، ازدادت عنصرية المستعمر وعدوانيته، النابعتان من تخوّفه من فقدان الهيمنة على الإنسان الفلسطيني، وعلى الحيز. إذ على الرغم من كل أشكال القمع المباشر والناعم الذي مارسته إسرائيل ضدنا، وكل محاولات تشويه الهوية الوطنية، من خلال طمسها في مناهج التعليم، حتى اليوم، اتسع الوعي العام، طبعا إلى جانب التشوّهات الثقافية والسياسية التي نمت أيضا بالتوازي بين أوساط الشعب، والتي تُصعّب على الحركة الوطنية تطوير مفاهيم واستراتيجيات كفاحية، سياسية وشعبية. ومن أشكال هذا التشوّه السياسي طريقة فهم قانون القومية والتفاهم معه، إذ تنظر إليه بعض النخب السياسية القيادية والأهلية باعتباره استمرارية لعنصرية الحكومة، وليس في سياق نظام فصل عنصري استعماري، قائم منذ البدء على أساس الطرد والنهب والتمييز العنصري. يقود هذا الفهم المشوّه بعضهم إلى التنظير والعمل مع اليسار الصهيوني، لإسقاط القانون، وليس لإسقاط النظام برمته، أي تفكيك منظومة القهر العنصرية الكولونيالية. والأخطر أنّ هذا الفهم المشوّه يكرس عملية الهروب، والتهرّب، المستمرّة من مهمة التركيز على تنظيم الفلسطينيين تنظيما قوميا، وتمكينهم في كل المجالات.
في مواجهة هذا الفهم المشوّه، تتنامى الأصوات، والجماعات، من أكاديميين ومثقفين، كبارا وشبابا، من خارج الأطر التمثيلية المذكورة التي تدعو إلى (وتعمل على) بلورة مفاهيم سياسية جديدة، بديلة، تقوم على استراتيجية إعادة بناء المؤسسات العربية التمثيلية، وأولها إقامة صندوق
قومي يقود عملية البناء الاقتصادي الذاتي، ويسند خطة استراتيجية للنضال الشعبي، قادرة على تحشيد الناس في مقاومةٍ مدنيةٍ ثقافيةٍ سياسيةٍ وشعبيةٍ مستمرة.
يحتاج هذا الأمر إلى قيادة غير القائمة حاليا، تتمتع بمهارة الإبداع، والإقدام، والقدرة على التخطيط، والمصداقية العالية، والتضحية من خلال الوجود مع الناس، في بيوتهم المهدّدة بالهدم، وأراضيهم المهدّدة بالمصادرة، وبين عشرات آلاف طلاب الثانويات، والعمال العرب. باختصار، قيادة تُنظم الناس، تُعلمهم، وتتعلم منهم فنّ الحياة والمقاومة.
عندما ينتظم المقهورون في مؤسساتٍ قوميةٍ قوية، وفي مقاومة شعبية تراكمية، ومن خلال لجان شعبية، ومهنية، وتثقيفية، وإصلاح ذات البين، تتبلور قيم تضامن وترابط وتكاتف. وبالتالي يخفّ العنف تلقائيا، ويتحول من عنفٍ ضد أنفسنا إلى غضبٍ شعبي مدنيّ، بدون سلاح، ضد المستعمر. هكذا يُعاد إنتاج الجماعة، وتشكيل وعي جديد، يقوم على الحسّ بالمسؤولية المتبادلة، وفق رؤية اجتماعية بنائية، شاملة، تعيد المعنى إلى الناس، وإلى الأجيال الشابة، من خلال تحقيق إنجازات معنوية وفعلية على طريق تحقيق التحرّر والحريّة. وعندها، ومن خلال ذلك، تستبدل معادلة التعايش المتهالكة بمعادلة المقاومة المشتركة مع اليهود الديمقراطيين الذين يناهضون نظام الفصل العنصري الكولونيالي.
ومنذ ذلك الحدث الوطني الكبير قبل 18 عاما، والذي قتلت فيه إسرائيل 13 متظاهرًا عربيا في الداخل، وجرحت مئات، وصل عدد ضحايا العنف الداخلي إلى 1263 حتى تاريخ 6\5\2018. وفِي الأشهر الثلاثة الأخيرة، قُتل أيضاً مواطنون عرب عديدون. ولا يكاد يمر يوم من دون حادث قتل أو شجار أو إصابة شخص بجروح، ما يُعمق مشاعر الإحباط واليأس وفقدان الأمان والشعور بالعجز. ولا يشمل هذا العدد بالطبع عشرات المواطنين العرب الذين قتلتهم شرطة إسرائيل في حوادث منفصلة فردية.
أغلب غضب الناس والقادة ونشطاء العمل الأهلي موجه إلى شرطة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، شرطة المستعمر، ففي الظاهر، وتجسيدا لحالة التناقض التي يعيشها، يطالب الفلسطيني، حامل المواطنة الإسرائيلية، شرطة الدولة التي تضطهده بالعمل على وقف العنف، وجمع السلاح من المواطنين العرب، وهي ظاهرة غير مسبوقة، خصوصا أن نظام الأبارتهايد لم يكن يتسامح مع أي قطعة سلاحٍ يمكن أن يحملها المواطن الفلسطيني. وكانت الأجهزة الأمنية للدولة الاستعمارية الجديدة بعد احتلالها القرى العربية قد جرّدت سكانها من السلاح، من خلال حملةٍ عنيفةٍ وعدوانيةٍ، استمرت سنوات بعد النكبة، وحتى فترةٍ قريبةٍ لم تكن حتى لتمنح رخص بنادق صيد خفيفة سوى لمتعاونين معها على الأغلب. وعندما تَشُكّ أجهزة المخابرات بوجود سلاح الذي من الممكن أن يوجه ضد أهدافٍ إسرائيلية، فإنها تغزو البلدة بكتائب من قوات الشرطة والجيش والمخابرات، وتستمر أحيانا أياما. وهذا النهج متبع حتى اليوم والأمثلة كثيرة. وهذا الجهد الأمني تحديدا هو ما يعزّز اعتقاد المواطن بوقوف المؤسسة الصهيونية وراء انتشار السلاح والعنف، لأن التساهل إزاء انتشار العنف، وتشجيع انتشار السلاح، ذو تكلفة قليلة للسيطرة على الفلسطينيين من خلال تحويل العنف إلى الداخل.
لذلك بدأ وعي شعبي جديد يتشكل أخيراً، يربط انتشار السلاح وعدم القبض على معظم المجرمين بنوايا نظام الأبارتهايد الذي يعمل على نشر التدمير الاجتماعي الداخلي، كجزء من نظام السيطرة والضبط المعتمد منذ النكبة. ويعتقد الناس أنه لو أرادت شرطة الأبارتهايد جمع السلاح والقبض على المجرمين، لفعلت ذلك بنجاح كبير. يأتي هذا الوعي الجديد، بعد أن ساد فترة طويلة بين الناس غضبٌ على الذات، أي على الفاعلين المباشرين، الأفراد، أو مجموعات الإجرام وحدهم.
ومع ذلك، ما انفكّت الحيرة تقض مضاجع هذا الجزء من شعبنا، أفراده، نخبه، ومؤسساته، إذ لم يتوصل بعد إلى المعادلة التي يمكن أن يعتمدها في مواجهة هذا الواقع المركّب، والخطر، والمرشح للتفاقم، والتردّي، بعد أن استنفدت المعادلات السابقة دورها وتأثيرها، فالنخب القيادية أخفقت، حتى الآن، في تعميم الفهم العلمي لنمو ظاهرة العنف الداخلي واتساعها، على المستوى الشعبي، بل حتى بين المؤسسات الفلسطينية؛ التربوية، والتعليمية، والاجتماعية، وإلى حد كبير بين القيادات الحزبية. وثانيا، أخفقت في التطور إلى قيادة قادرة على القيادة والتوجيه، وقيادة نضال سياسي شعبي مؤسّس على استراتيجية عمل متماسكة. ويُشكل التركيز على اتهام الشرطة وحدها تعويضا عن الإخفاق الذاتي: أولا، القصور في فهم جذور الظاهرة. وثانيا، في تقديم واعتماد استراتيجية عمل شاملة لمواجهة هذا الواقع.
قد يكون الحديث، بالنسبة للمواطن في المحيط العربي الذي يكتوي بعنف وحشي يفوق الخيال، عن العنف في أوساط مليون ونصف مليون عربي في فلسطين، ليس ذا أهمية كبيرة مقارنة بالأهوال التي يعيشها تحت أنظمة متوحشة، بل قد يقول قائل منهم، بل كثيرون، إن وضعكم يظلّ أقل سوءًا بكثير، لكن الأمر ليس على هذا النحو، ولا يجوز الاكتفاء بأن إسرائيل أكثر ذكاء في استخدام العنف، حتى لو كانت الأنظمة العربية أكثر وحشيةً، فكلاهما متوحش، والنضال ضدهما واجب أخلاقي، والعدالة لا تتجزأ، والظلم واحد، وإن تعدّدت أشكاله ومصادره. وبالتالي، الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، مثل أي مجموعة فلسطينية أخرى، أو أي شعب عربي آخر، تُحركهم حافزية البقاء، وتوفير الحماية للجماعة والفرد، والتطوّر، وتأمين حياة إنسانية طبيعية. كما لديهم تناقضاتهم، ليس فقط مع نظام الاستعمار، بل أيضاً فيما بينهم. وتفرقهم المصالح، كما تفرّقهم الأيديولوجيات، واختلاف مفهومهم لخصوصيتهم ولموقعهم في الدولة العبرية، وعلاقتهم مع شعبهم، ومع مستقبلهم، ومستقبل الكل الفلسطيني.
وتحتدم السجالات في هذا الخصوص، وتختلط كثيرا الأمور عليهم بخصوص تحديد محاور انتمائهم وكيفية تحصيل حقوقهم. ومع تغوّل المشروع الصهيوني، وتعمق إفرازاته، السياسية والجغرافية، والثقافية والاجتماعية، والنفسية، تتعمق أزمة البحث عن المخرج. وتتجّلى هذه الإفرازات في تفكّك المنظومة الأخلاقية مثل ضعف التعاضد والتضامن، وشيوع الفردانية، على مستويي النخب والفرد، فمرض النجومية، وتحويل الموقع القيادي إلى امتياز شبه ثابت، والانعزال عن العيش بين الناس، أحد أشكاله البائسة. أما تقوقع الأسر على نفسها، والهوس في تحقيق نجاحات تعليمية، وضمان الوظيفة، بمعزل عن التربية الأخلاقية والوطنية، وعن الالتزام تجاه المجتمع، فقد بات مظهرا بنيويا في المجتمع. طبعا، هناك أكثر من خمسين في المائة يعيشون تحت خط الفقر، والذين تتركز أولوياتهم في ضمان النجاة، وتوفير لقمة العيش، وسداد القروض والديون. طبعا هذا ما يفسّر بعض أسباب انحسار النضال الشعبي بصورة حادّة، واختزال العمل السياسي، أو اللاسياسي، في نخبةٍ قياديةٍ تحتل رأس الهرم في الهيئات التمثيلية المشتركة، مثل لجنة المتابعة العليا (مظلة للأحزاب ورؤساء السلطات المحلية تشكلت أوائل الثمانينيات) والقائمة المشتركة التي تضم كل أعضاء الكنيست الممثلين للأحزاب التي تخوض انتخابات الكنيست (تشكلت عام 2015)، واللجنة القُطرية للسلطات المحلية العربية (تشكلت في أواسط السبعينيات).
ويسود، في السنوات الأخيرة، قلقٌ شديد، وخوفٌ من المستقبل، في أوساط هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي ظل في منأى عن نتائج الحروب العدوانية الإسرائيلية الدموية التي شُنّٰت ضد الشعب الفلسطيني ودول عربية وحركات مقاومة، فلم يطاوله ما طاول بقية شعبنا، ووطننا العربي، من تدمير وفقدان لأعداد هائلة من الشهداء والجرحى. وقد بات يشعر بقلق وجودي، خصوصا بعد تمرير قانون القومية، الاستعماري، وما يحمله هذا القانون من مخاطر جديدة على وجودهم الفيزيائي. وازداد هذا الجزء من الشعب الفلسطيني قلقا، وربما تمسّكا بواقعه الخصوصي داخل الكيان الصهيوني، بعد تدمير الثورات العربية التي قمعت بوحشيةٍ يعجز أكبر مبدعي الخيال الأدبي عن تصورها.
وكانت تجربة توحيد الأحزاب السياسية العربية في قائمة انتخابية مشتركة، عام 2015، من أهم المبادرات التي رأى فيها بعضهم، وكاتب هذه السطور منهم، وصفة لتفادي وصول الانقسامات السياسية والدينية والطائفية من دول الثورات العربية، خاصة سورية، ومن تجربة الانقسام الفلسطيني الكارثي بين حركتي فتح وحماس، إلى ساحة فلسطينيي الـ 1948، بل أهم من ذلك، رأينا في هذه التجربة إحدى روافع تطوير دور هذا الجزء من شعبنا في النضال الفلسطيني الوطني العام، وفي مواصلة مواجهة الصهيونية، باعتبارها حركة كولونيالية عنصرية، بعد أن أغلق اتفاق أوسلو باب الصراع الأيديولوجي ضدها. وقد نظر اليمين الصهيوني، ولا يزال، إلى هذه التجربة، على الرغم من تعثرها وتآكلها، نظرة شكّ وهجوم متواصل.
أفرغت هذه التجربة، وإنْ ما زالت قائمة شكليا، من مضمونها، بسبب سلوك قوى سياسية لم تكن أصلا مقتنعةً بمضمونها، المتمثل في تنظيم هذا الجزء من شعب فلسطين، قوميا، واختزلتها في مكاسب حزبية ضيقة. لم تستطع هذه القوى التقليدية تحديدا، حتى اللحظة، على الرغم من المتغيرات الجذرية التي طرأت على بنية الوعي الوطني العام، تجاوز مفهومها التقليدي، ولا تزال تعتقد أن التعاون والتحالف مع اليسار الصهيوني، الليبرالي، أهم من تمكين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
.. ما يمرّ به المجتمع الفلسطيني، داخل الخط الأخضر، من عنف متسارع ومتسع، له صلة عضوية بالسياق الاستعماري. والتحليلات العميقة التي يقدمها بعض الخبراء، المستندة إلى الخلفيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة، لم تتجذّر بعد في أوساط المؤسسات القيادية، السياسية والتعليمية والاجتماعية، ناهيك عن وصولها إلى الناس العاديين. ويعيق هذا القصور التفكير الصحيح الذي يقود إلى اشتقاق السبل المناسبة لمواجهته.
ما يعيشه فلسطينيو الـ48 اليوم، وما يطبع كثيرا من أوجه حياتهم، هو حصيلة النكبة، والسياسات الاستعمارية، المتمثّلة في نهب الأرض، وتدمير الزراعة العربية، وإخضاع الفلاحين الفلسطينيين لعلاقة تبعية كاملة بالاقتصاد الصهيوني، وفِي حجب تطور البلدات العربية التي تم تحويلها إلى غيتوات محاصرة من المستعمرات اليهودية، بدون زراعة، بدون صناعة، وبدون مسطحات بناء كافية للاستجابة مع متطلبات النمو الطبيعي.
كان الهدف، منذ البداية، تحويل البقية الباقية من الشعب الفلسطيني الذين فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية إلى أقلية ضعيفة مفكّكة، وتابعة، ومشوّهة حضاريا وطنيا، ومهددة بصورة دائمة بالطرد. والعنف المستشري هو نتاج انسداد الأفق أمام هذا الجزء من شعب فلسطين. لقد تضاعف عددهم مراتٍ، فوجد عشرات آلاف الشباب الطريق مسدودا أمام تقدّمهم في الحياة. ومع توسع حالة الوعي السياسي والوطني بين هذه الأجيال التي لا تكتفي بالفتات، وتعلمت كيف تقارع المستعمر لانتزاع حقوقها، اليومية والقومية، ازدادت عنصرية المستعمر وعدوانيته، النابعتان من تخوّفه من فقدان الهيمنة على الإنسان الفلسطيني، وعلى الحيز. إذ على الرغم من كل أشكال القمع المباشر والناعم الذي مارسته إسرائيل ضدنا، وكل محاولات تشويه الهوية الوطنية، من خلال طمسها في مناهج التعليم، حتى اليوم، اتسع الوعي العام، طبعا إلى جانب التشوّهات الثقافية والسياسية التي نمت أيضا بالتوازي بين أوساط الشعب، والتي تُصعّب على الحركة الوطنية تطوير مفاهيم واستراتيجيات كفاحية، سياسية وشعبية. ومن أشكال هذا التشوّه السياسي طريقة فهم قانون القومية والتفاهم معه، إذ تنظر إليه بعض النخب السياسية القيادية والأهلية باعتباره استمرارية لعنصرية الحكومة، وليس في سياق نظام فصل عنصري استعماري، قائم منذ البدء على أساس الطرد والنهب والتمييز العنصري. يقود هذا الفهم المشوّه بعضهم إلى التنظير والعمل مع اليسار الصهيوني، لإسقاط القانون، وليس لإسقاط النظام برمته، أي تفكيك منظومة القهر العنصرية الكولونيالية. والأخطر أنّ هذا الفهم المشوّه يكرس عملية الهروب، والتهرّب، المستمرّة من مهمة التركيز على تنظيم الفلسطينيين تنظيما قوميا، وتمكينهم في كل المجالات.
في مواجهة هذا الفهم المشوّه، تتنامى الأصوات، والجماعات، من أكاديميين ومثقفين، كبارا وشبابا، من خارج الأطر التمثيلية المذكورة التي تدعو إلى (وتعمل على) بلورة مفاهيم سياسية جديدة، بديلة، تقوم على استراتيجية إعادة بناء المؤسسات العربية التمثيلية، وأولها إقامة صندوق
يحتاج هذا الأمر إلى قيادة غير القائمة حاليا، تتمتع بمهارة الإبداع، والإقدام، والقدرة على التخطيط، والمصداقية العالية، والتضحية من خلال الوجود مع الناس، في بيوتهم المهدّدة بالهدم، وأراضيهم المهدّدة بالمصادرة، وبين عشرات آلاف طلاب الثانويات، والعمال العرب. باختصار، قيادة تُنظم الناس، تُعلمهم، وتتعلم منهم فنّ الحياة والمقاومة.
عندما ينتظم المقهورون في مؤسساتٍ قوميةٍ قوية، وفي مقاومة شعبية تراكمية، ومن خلال لجان شعبية، ومهنية، وتثقيفية، وإصلاح ذات البين، تتبلور قيم تضامن وترابط وتكاتف. وبالتالي يخفّ العنف تلقائيا، ويتحول من عنفٍ ضد أنفسنا إلى غضبٍ شعبي مدنيّ، بدون سلاح، ضد المستعمر. هكذا يُعاد إنتاج الجماعة، وتشكيل وعي جديد، يقوم على الحسّ بالمسؤولية المتبادلة، وفق رؤية اجتماعية بنائية، شاملة، تعيد المعنى إلى الناس، وإلى الأجيال الشابة، من خلال تحقيق إنجازات معنوية وفعلية على طريق تحقيق التحرّر والحريّة. وعندها، ومن خلال ذلك، تستبدل معادلة التعايش المتهالكة بمعادلة المقاومة المشتركة مع اليهود الديمقراطيين الذين يناهضون نظام الفصل العنصري الكولونيالي.
دلالات
مقالات أخرى
02 سبتمبر 2019
17 يوليو 2019
07 ابريل 2019