يعيش المسن الفلسطيني محمود أبو صالح وعائلته المكوّنة من ثمانية أفراد في خيمة صغيرة متهالكة بمنطقة نائية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بعد فرارهم من سيناء، خوفاً على أرواحهم من الحرب الدائرة بين الجيش المصري ومسلّحي تنظيم الدولة الإسلامية (ولاية سيناء).
في المرة الأولى هجّرت عائلة أبو صالح من قرية صغيرة في صحراء النقب تسمّى "القصر" عام 1948 على يد العصابات الصهيونية، وأقامت بعدها لفترة وجيزة في مدينة خان يونس، حتى رحلت إلى سيناء في العام ذاته، ومن وقتها وحتى ديسمبر/ كانون الأول من عام 2013 لم تعرف العائلة وطناً غير سيناء التي هدّم الجيش المصري بيتهم فيها في يوليو/ تموز عام 2013، ما اضطرهم للرحيل إلى جنوب مدينة رفح المصرية، وهناك أقامت العائلة، كما يروي أبو صالح، في بيت من الصفيح وسط مزرعة، لكن الأذى لاحقهم، إذ اعتقل الجيش أحد أبنائه، والذي فقد إحدى عينيه جرّاء التعذيب، ما اضطره وعائلته للفرار إلى غزة عبر الأنفاق، وسط ظروف معيشية صعبة، إذ اضطرت العائلة للعيش على مساعدات غذائية تصرفها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين "الأونروا".
500 نازح في غزة
منذ بداية العام الماضي وحتى أول مارس/ آذار الماضي فرّ 354 من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين المقيمين في سيناء إلى قطاع غزة، إضافة إلى 150 آخرين فرّوا منذ أواسط عام 2013، حتى نهاية عام 2015، بحسب ما كشف مصدر أمني فلسطيني لـ"العربي الجديد"، وهو ما أكّده الناشطان الغزيان المهتمان بمتابعة أوضاع فلسطينيي سيناء، محمد قشطة، ومحمود سليمان، واللذان لهما أقرباء ما يزالون يقيمون في سيناء.
ويقيم في قطاع غزة ثمانية آلاف مصري ومصرية، غالبيتهم نساء تزوّجن من غزيين، بينما يصل عدد الفلسطينيين من حاملي الجنسية المصرية في القطاع إلى عشرة آلاف شخص، وفق إحصاء عادل عبد الرحمن، الناطق باسم الجالية المصرية في غزة (تجمّع يضم مصريين ومصريات يقيمون في قطاع غزة).
الفرار من الموت
تحمل الأسر النازحة إلى القطاع جنسيات مصرية أو وثائق سفر مؤقتة، ومن هؤلاء النازح الأربعيني عيسى برهوم، والذي فرّت عائلته إلى القطاع بعد أحداث يونيو/ حزيران عام 2013 في مصر، ويقيم برهوم في بيت مستأجر بمدينة رفح الفلسطينية، بين أهله وعشيرته المعروفة باسم البراهمة، والممتدة بين شطري الحدود، ويصل عدد أفرادها إلى 11 ألفاً في الرفحين المصرية والفلسطينية.
اضطر برهوم إلى ترك مصر التي لم يعرف غيرها وطناً، إذ ولد في سيناء عام 1975 في حي البراهمة الذي كان ممتداً بين مصر وفلسطين المحتلة وجرى تقسيمه إلى شطرين عام 1982 بعد انسحاب جيش الاحتلال من كامل سيناء، بموجب اتفاقية كامب ديفيد الموقّعة في سبتمبر/ أيلول 1978.
هاجرت عائلة برهوم للمرة الأولى من مدينة بئر السبع في صحراء النقب عام 1948، وعاشت في حي البراهمة الذي كان يقطنه أربعة آلاف من أبناء العائلة في رفح المصرية، لكن أحداث عام 2013، شردتهم جميعاً، إذ جرى هدم الحي بالكامل، وغادر أهله إلى العريش والصالحية الجديدة التي تتبع مركز فاقوس بمحافظة الشرقية في دلتا مصر، ورفح الفلسطينية التي وصل إليها 70 من أبناء عائلة البراهمة بعد حرمانهم من تعويضات هدم منازلهم، والتي لم تزد على 70 ألف جنيه مصري كحد أقصى "3800 دولار أميركي"، مقابل كل منزل تبلغ مساحته
لاجئون جدد
تنبهت دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية إلى معاناة اللاجئين الجدد في قطاع غزة في بداية العام الماضي، وعمل زياد الصرفندي، رئيس المكتب التنفيذي للدائرة، على الملف الذي حاز اهتمام الدائرة، والتي رصدت وصول 1200 لاجئ إلى غزة، من بينهم 700 من فلسطينيي سورية، و500 من فلسطينيي سيناء، يحمل منهم 320 بطاقة لاجئ الصادرة عن الأونروا و180 لا تشملهم مساعدة الأونروا كونهم لم يهجروا عام 1948.
وقدمت الدائرة مساعدات عاجلة للقادمين من سيناء، بسبب سوء أوضاعهم، كذلك قدّمت منحاً دراسية للطلاب الجامعيين من بينهم، فيما تعمل الدائرة على دراسة حالات جديدة وصلت مؤخراً من سيناء، لتقديم المساعدات لهم، بحسب ما أفاد به الصرفندي.
قتلى وجرحى في سيناء
قتل 30 من فلسطينيي سيناء، من عائلات زعرب والشاعر وبرهوم وقشطة، برصاص الجيش المصري والمسلحين منذ أول يوليو/ تموز 2013، بينما زاد عدد المصابين عن 150 مصاباً، ووفقاً لمعلومات متطابقة حصل عليها معدّ التحقيق من العائلات الفارة وأخرى موجودة في سيناء، وتلاحق قوات الجيش المصري من يحملون عناوين "رفح المصرية" في هوياتهم، ويتم التنكيل بهم واعتقالهم على حواجز الجيش، وهو ما جرى لأقرباء عيسى برهوم.
ويقدر عدد سكان مدينة رفح المصرية بـ 13 ألف فلسطيني، نزح 12 ألفاً منهم بعد عام 2013، فيما بقي ألف شخص يقيمون عند أطرافها الجنوبية، وفق ما أكدت مصادر مصرية وعائلات فرّت إلى القطاع، حصلت على إغاثة عبارة عن مساعدات إغاثية غذائية وبدل إيجار شهري بمتوسط 200 دولار وفق عدد الأفراد، وتعليم ورعاية صحية أولية مجانية من قبل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وفق ما أكد الناطق باسمها في غزة عدنان أبو حسنة، والذي حصر عدد العائلات الفلسطينية التي تقدّم لها الأونروا مساعدات، محدداً إياها بـ 220 عائلة معظمها من سورية ومصر.
فلسطينيو الحدود
في كتابه "رفح مدينة على الحدود"، حدّد المؤرخ والباحث الفلسطيني عودة عياش عدد العائلات والقبائل الفلسطينية التي سكنت مدينة رفح الفلسطينية، بـ 15 عائلة فلسطينية وأربع قبائل بدوية كبيرة، تقيم في شبه جزيرة سيناء ولها امتداد داخل غزة، بعضها هاجرت عام 1948، وأخرى موطنها الأصلي سيناء، أكبرها زعرب والشاعر وقشطة، وبريكة، والجبور، وأبو عمرة، والصوفي، وكذلك بلبل والقمبز، إضافة إلى قبائل الترابين والسواركة والرميلات والملالحة.
وأدى توقيع اتفاقية عام 1906 بين الدولة العثمانية والخديوي عباس حلمي، حاكم مصر المحتلة من قبل البريطانيين وقتها، إلى شطر رفح إلى مدينتين ورسم ما يعرف بالخط الإداري الوهمي من أجل ترسيم حدود مصر مع بلاد الشام، كما أورد الباحث عياش في كتابه، بينما أدى ترسيم الحدود بين مصر وكيان الاحتلال، وفق اتفاقية كامب ديفيد، إلى فصل المدينتين بشكل فعلي عبر أسلاك شائكة تم وضعها على الحدود ومنع التنقل بين الرفحين إلا بتصاريح خاصة، كما أوضح عياش في إفادة خاصة لـ"العربي الجديد".
مواطنة منقوصة
يقع الفلسطينيون القادمون إلى غزة عبر الأنفاق في إشكالات قانونية، إذ لا يملك أغلبهم أوراقاً ثبوتية تؤكد أنهم فلسطينيون، كونهم من لاجئي الشتات، وبعضهم لديهم بطاقات هوية مصرية، لذلك تعاملهم الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أنهم أجانب، لا يمنحون أوراقاً ثبوتية فلسطينية، وفق ما أكد لـ"العربي الجديد" مصدر أمني يعمل في دائرة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية الفلسطينية.
ويؤكد المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه لكونه غير مخول بالحديث مع الإعلام، أن من يمتلك أوراقاً تثبت أنه فلسطيني، أو يتزوج من فلسطينية من غزة، يمنح "بطاقة تعريف"، من دون رقم مسجل في الحواسيب الإسرائيلية، وتصلح تلك البطاقة للتعامل داخل القطاع فقط، ولا يمنح النازح بطاقة هوية وجواز سفر مثل مواطني القطاع، إذ يتطلب الأمر موافقة إسرائيلية، بموجب اتفاق أوسلو، بحسب ما يؤكد الحقوقي والباحث القانوني محمد أبو هاشم، والذي أوضح أن دولة الاحتلال لا تمنح النازحين بطاقات هوية كونهم من لاجئي الشتات، وبعضهم يحمل جنسيات مصرية، ويجب أن يعاملوا كلاجئين.
وتنص الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة للمفوضين بشأن اللاجئين وعديمي الجنسية في 28 تموز/ يوليو عام 1951، على ضرورة أن يتمتع اللاجئون الفارون من الحروب والصراعات بحقوق أساسية، من توفير طعام ومسكن وعدم اضطهادهم أو تعريضهم للتعذيب، وهو ما قامت به الأونروا بحق 320 من فلسطينيي سيناء ممن يمتلكون بطاقات تثبت أنهم لاجئون مهجرون من أرضهم عام 1948، بينما بقي 180 من دون رعاية أي مؤسسة، كونهم ليس لديهم بطاقة لاجئ، من بينهم الخمسينية أم محمود غزال، والتي تواجه صعوبات في التأقلم بعد أن اضطرت للهجرة مرة ثانية من سيناء إلى قطاع غزة عبر أحد الأنفاق، أواخر عام 2014، مصطحبة أربعة من أبنائها، إذ ضاقت بها سبل الحياة بعد 66 عاماً من الإقامة في رفح المصرية، لكن الأمور تغيرت بعد يوليو/ تموز 2013، إذ جرف الجيش مزرعة الزيتون الخاص بها واحتل جنوده منزلها، ونصبوا رشاشاتهم على سطحه، ما أدى إلى موت زوجها قهراً، واعتقال أبنائها، ما دفعها إلى الفرار رفقة 4 منهم بينما رفض أربعة آخرون المجيء معها إلى غزة، وقرروا البقاء في مصر.
وتقيم أم محمود في غرفة صغيرة عند أحد أشقائها، في ظروف صعبة كما تقول، إذ فوجئت بصعوبة الحياة، وانعدام فرص العمل لأبنائها، كما أن مستوى المعيشة في القطاع مرتفع عن سيناء، ما ضاعف من هموم الغربة وفراق الأبناء في ظل فقدان الاستقرار والحنين إلى مزرعتها وبيتها المصادرين.