فلسطينيو الداخل وحسابات المنظمة

21 يونيو 2015
"مخيم الهوية"، صيف 2014 (تصوير رامي جبارين)
+ الخط -

في حين كانت منظمة التحرير تتطلع إلى تمثيل الفلسطينيين أينما وجدوا، كان فلسطينيو أراضي عام 48 يرزحون تحت نظام الحكم العسكري الذي فرضته الدولة العبرية عليهم مند نكبة 48 إلى أواسط الستينيات من القرن الماضي، الأمر الذي جعل فلسطينيي الداخل في قطيعة سياسية واجتماعية وجغرافية قبل أي شيء عن محيطهم الفلسطيني والعربي.

فالنظام الإداري الأمني الذي أُخضع له فلسطينيو الداخل حال دون إمكانية التواصل مع فضائهم العربي والحضاري، كما صعب ذلك على منظمة التحرير إمكانية التواصل معهم بأي صفة رسمية أو غير رسمية، خصوصاً بعد رفع نظام الحكم العسكري عن فلسطينيي الداخل، ومنحهم صفة "المواطنة الإسرائيلية"، ما جعلهم خارج دائرة حسابات منظمة التحرير التي عنيت بشؤون الفلسطينيين في الضفة والقطاع والشتات.

وعلى الرغم من خصوصية واقع فلسطينيي الداخل، واحتوائهم في إطار مشروع الدولة العبرية، إلا أن ذلك لم يمنع من تفاعل بعض فلسطينيي الداخل مع فكرة إنشاء منظمة التحرير كمنظمة ممثلة للشعب الفلسطيني تسعى إلى تحرير كامل ترابه، فقد انتمى الكثيرون من أبناء الداخل الفلسطيني إلى منظمة التحرير من أراضيهم وقراهم في الداخل، ومنهم من تسلل والتحق بها خارج فلسطين إلى دول الطوق العربي مثل الأردن وسورية ولبنان.

كما أشارت الأرشيفات الإسرائيلية إلى أسماء فلسطينيين من داخل مدن وقرى فلسطين المحتلة عام 1948 الذين انتموا لمنظمة التحرير وحملوا السلاح داخل أراضي عام 48، فمنهم من لاحقتهم الدولة العبرية وصفّي جسدياً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنهم من استطاع الفرار إلى خارج فلسطين والالتحاق بالمنظمة. هذا وفضلاً عما جاء في رواية فلسطينيي الداخل الشفوية عن دورهم في إيواء الفدائيين "المتسللين" عبر الشريط الحدودي من سورية ولبنان ومساعدتهم في تنفيذ عمليات فدائية داخل أراضي عام 48.

كانت أي علاقة أو صِلة لفلسطينيي الداخل بمنظمة التحرير تعتبر خطيئة ومساساً أمنياً مباشراً بالنسبة للإسرائيليين،إذ لم يتوان الجهاز الأمني الإسرائيلي عن ملاحقة وتصفية كل من أحيطت حوله الشكوك بالانتماء أو التعامل مع منظمة التحرير، وهذا ما أربك القوى الاجتماعية والسياسية العربية في الداخل، لذا اقتصر تواصل فلسطينيي الداخل مع منظمة التحرير على مستوى الأفراد والخلايا السرية.

إن التغيرات التي طرأت على ظروف منظمة التحرير في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وانخفاض سقف المنظمة السياسي والعسكري من مشروع تحرير كامل التراب الفلسطيني، إلى تبني المنظمة في عام 1974 مشروع إنشاء دولة ديمقراطية علمانية مؤقتة على جزء من التراب الفلسطيني.

ومن ثم في عام 1988 تبني المنظمة رسمياً خيار الدولتين في فلسطين التاريخية والعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في تسوية سياسية انتهت في عام 1993 في مدينة أوسلو إلى اعتراف منظمة التحرير اعترافاً رسمياً بدولة إسرائيل على التراب الفلسطيني في مقابل اعتراف الإسرائيليين بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، فقد أخرجت هده التسوية فلسطينيي الداخل من حسابات منظمة التحرير بشكل رسمي وفعلي معا، بعد أن اعتبرت منظمة التحرير نفسها لعقود من الزمن ممثلة لكافة الشعب الفلسطيني بما فيه فلسطينيي الداخل معنوياً على الأقل.

تحولت علاقة فلسطينيي الداخل بمنظمة التحرير بعد اتفاقية أوسلو تحولاً جدلياً، ففي الوقت الذي تخلت فيه المنظمة عن تمثيلها الرسمي لهم واقتصار مشروعها على أراضي عام 67، أصبح فلسطينيو الداخل أكثر انفتاحاً وتواصلاً مع منظمة التحرير، فالأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية في الداخل والتي كانت تخشى التواصل مع منظمة التحرير باتت بعد اتفاقية أوسلو أكثر انفتاحاً على منظمة التحرير وأكثر تواصلاً مع ممثليها في الضفة والقطاع وحتى في الخارج، لكن هذا الانفتاح لفلسطينيي الداخل على منظمة التحرير، جاء من على أرضية أوسلو نفسها التي كرست تفتيت الفلسطينيين لا توحيدهم.

وفي المقابل، كان لإخراج فلسطينيي الداخل من حسابات منظمة التحرير الأثر المباشر على إعادة تشكيل الخارطة السياسية لدى فلسطينيي الداخل ولدى الحركة الوطنية على وجه الخصوص، فقد أعيد تصحيح مسار الحركة الوطنية في الداخل مع تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي في أواسط تسعينيات القرن الماضي، والذي سعى للإجابة على أسئلة تلك المرحلة من خلال صياغة برنامج ديمقراطي يستند إلى خطاب قومي في إطار الهوية العربية كهوية ناظمة وجامعة لكافة فلسطينيي الداخل.

وفي الأخير، وبعد إخفاق منظمة التحرير في تحقيق أي من أهدافها، ومتحفتها، وتحولها إلى أداة غير فاعلة، وتفعيلها فقط رمزيا بين حين وآخر من قبل فصيل سياسي على حساب آخر في الصراع على التمثيل والنفوذ، وبعد تهميشها لقضايا فلسطينيي الداخل الوطنية والقومية وحتى المطلبية منها، بعد اتفاقية أوسلو.

رغم ذلك فإن فلسطينيي الداخل باتوا أكثر وعياً بفلسطينيتهم في العقدين الأخيرين، وأكثر انفتاحاً وتواصلاً مع هموم أبناء شعبهم في الصفة والقطاع ومخيمات اللجوء في الخارج، وفي المقابل باتت قضايا فلسطينيي الداخل الخاصة بهم محل اهتمام لدى فلسطينيي الضفة والقطاع ومخيمات اللجوء أكثر مما كانت عليه سابقاً، فحملة مناهضة مشروع "برافر" في النقب أصبحت حملة تخص كافة أبناء الشعب الفلسطيني أينما وجدوا. وببساطة، فإن هذا يقول، إن علاقة فلسطينيي الداخل بشعبهم الفلسطيني لا تمر عبر منظمة التحرير أياً كان شكلها ومشروعها اليوم.


(باحث فلسطيني/ الناصرة)