"حرّ زيادة على جنب".
أنسى الحرّ دائماً، ولا أنسى صوت أمي كلّما كلّفتني الذهاب إلى مطعم الفلافل. تحمّلني دائماً أمانة الحرّ. فالفلافل لا تؤكل من دون الحرّ المكبوس، على ما تقول القاعدة.
يقع مطعم أبو نبيل عند زاوية عقار عتيق، وترتفع خلف المحلّ الشجرات الأخيرة في المنطقة. لم أعرف أبو نبيل يوماً. توفي قبل زمن طويل. لا أحفظ منه إلا صورته المعلّقة في المطعم الصغير الذي أورثه لأبنائه. في الصورة التاريخيّة، يقف بشعره المموّج مرتدياً سترة بيضاء وبنطلوناً بنّي اللون، يضع يداً في جيبه وفي اليد الأخرى يحمل سيجارته بثقة، ويستند بكتفه إلى برّاد البيبسي كولا. يبدو في الصورة ممثلاً هوليوودياً أكثر منه صاحب مطعم فلافل.
يستقبل الحاج محمد، الابن الأوسط لأبو نبيل، الزبائن بكثير من اللباقة. الحاج هو "دينامو" المطعم. كيفما دار، يدور المطعم معه. علاقته الوثيقة بالزبائن تخرج عن إطار المصلحة والتجارة. علاقة أبناء منطقة ببعضهم بعضاً. يسأل عن الجميع بالأسماء، من هاجر منهم ومن تزوّج ومن بقي.
تأسّس مطعم الفلافل في منطقة عائشة بكار في منتصف السبعينيات، وصار من معالمها. قبل ذلك كان في وسط بيروت، لكنّه هجّر ككثير من المؤسسات مع بدايات الحرب الأهليّة، بعدما صار الوسط مساحة للاشتباكات اليوميّة بين المقاتلين.
الإيقاع الذي يعمل فيه الحاج محمد في المطعم سريع لدرجة التعجّب. يلتقط أقراص الفلافل الخارجة تواً من المقلى السّاخن حيث يتولّى الحاج نبيل، الشقيق البكر، مهمّة تدليلها بالزيت. تخرج منتفخة ومحمّصة ومقرمشة. يوزّع الحاج الأقراص الذهبية بمساواة على أرغفة الخبز. يتناول رغيفاً إضافياً، وبهذا الرغيف يضغط على الأقراص الساخنة. يكبس عليها كي يفقشها فيخرج البخار حاراً من داخلها. بعد ذلك يوزّع الخضار عليها. البقدونس والفجل والنعناع. ثم يبدأ بتقطيع البندورة الحمراء بسرعة خارقة. يضع الكبيس، ومن ثم يدلق من إبريق الطرطور على الساندويشات. يرسم الحاج بهذا السائل السميك لوحات فنيّة قبل أن يلفّ الساندويشات. يفعل كلّ هذا بسرعة قياسيّة لا تزيد على دقيقة واحدة، من دون مبالغة. وقد يزيّن رأس السندويش برشّة إضافيّة من الطرطور كي يفتح شهيّة الزبون.
تغيّرت المنطقة وما تغيّر طعم فلافل أبو نبيل. ما زالت بالشهيّة نفسها، ولو أنها حوصرت بالدعائم الحديديّة مؤخراً، لضرورات أمنيّة، بعدما صار جار المطعم الشيخ عبد اللطيف دريان، مفتياً للجمهوريّة.
أما أنا فما زلت حتى اليوم أنسى في كلّ مرّة إحضار الحرّ، ولا أنجو من توبيخ أمي.