08 نوفمبر 2024
فقدنا الدهشة
"نشأة الفلسفة والقدرة على التفلسف والتفكير متوقفتان على القدرة على الاندهاش من المألوف والمعتاد والبديهي، كوجود الإنسان ووجود العالم". هذه العبارة ملخص فكر الفيلسوف الألماني، آرثر شوبنهاور، والتي نشرها ضمن نص "الدهشة الفلسفية"، وبنيت عليها مدارس وتعاليم فلسفية كثيرة لاحقاً.
على هدي هذه القاعدة، يسير القائمون على الدول العربية في مسعاهم إلى دفعنا للتعامل مع كل حدث أو موقف بأنه شيء طبيعي وعادي، ولا داعي للوقوف أمامه كثيراً. هكذا مثلاً باتت تمر تصريحات عديدة أمامنا في وسائل الإعلام مرور الكرام، إذ لم تعد تسترعي اندهاشاً كثيراً. الأمر نفسه بالنسبة إلى الأحداث الجسام، التي تشهدها بعض الدول العربية، وأصبحت شيئاً مألوفاً بالنسبة إلى المواطنين، لا يدعو إلى الاستغراب أو الاعتراض، لتتحول الأمور شيئاً فشيئاً إلى نوع من التعايش مع واقعٍ مفروض، لا أمل في تغييره.
كانت مثل هذه السياسة متبعة منذ زمن طويل، وأثبتت فعاليتها، وها هي تعود بقوة مع الأنظمة الجديدة في العالم العربي، والتي كان من المفترض أن تمثّل مرحلة التغيير. ولعل النموذج المصري أساسي لإعطاء مثال على الحال التي أوصل إليها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، البلاد.
منذ توليه الحكم، دأب السيسي على إطلاق مواقف كثيرة، كانت تثير درجةً عالية من الدهشة والتساؤل المتمحور حول فكرة "كيف يمكن أن تصدر مثل هذه التصريحات عن رئيس أكبر دولة عربية؟"، "وهل هذا الرجل فعلاً مؤهل ليكون رئيساً؟". مثل هذه التساؤلات، خرجت عند كلامه عن نفسه بأنه "طبيب"، وحين أطلق عبارته التاريخية "ما يصحش كده"، وغيرها الكثير الكثير من المواقف والإفيهات التي من المفترض أن تكون من اختصاص الممثلين الكوميديين، وليس رؤساء الجمهوريات.
مع الوقت، لم تعد مواقف السيسي تثير أي درجةٍ من الاستغراب، ليس فقط في الشارع المصري، بل حتى في الأوساط العربية التي كانت تتشارك مع المصريين دهشتهم. اختفت الدهشة، ومعها اختفت التساؤلات حول أهلية الرجل لتولي الحكم، وأصبحت أفعاله تمرّ، بشكل عابر، على أنظارنا ومسامعنا. من هذه الأفعال التي لم تأخذ حظها من الاهتمام، ما قاله السيسي من على منبر الأمم المتحدة حول الدولة الفلسطينية، و"خرج به عن النص المكتوب" على حد قوله. السيسي، ومثلما فعل قبل أشهر، حين أطلق مبادرته للسلام، تعامل مع القضية الفلسطينية بالمنطق الاستشراقي نفسه، ووعد الإسرائيليين بـ "المزيد من الازدهار"، في حال تنازلوا ووافقوا على منح الفلسطينيين دولة. الأنكى إعطاؤه "النموذج المصري" مثالاً يحتذى في العلاقة مع إسرائيل. لم تثر هذه العبارة الدهشة، ولم يتوقف كثيرون عند هذا التباهي بالعلاقة مع إسرائيل، والذي يعلنه السيسي، ويكرس فيه مصر دولةً متعاونة مع الاحتلال.
وعلى هذا المنوال، يمكن إدراج قصص مصرية كثيرة تدخل في إطار "فقدان الدهشة". على سبيل المثال، كان بث التلفزيون المصري الرسمي مقابلة مع السيسي أجريت قبل سنتين، وتقديمها على أنها حديثة، أيضاً حادثة غرق العبارة ومقتل 150 شخصاً، مرت من دون دهشةٍ كثيرة، مجرد استنكار عابر باعتبار المسألة باتت شيئاً طبيعياً.
استراتيجية إفقاد الدهشة ليست حكراً على النظام المصري، فهي متبعة في دول عربية كثيرة، ويمكن إدراج مثال لبناني سريع، يقدمه وزير الخارجية، جبران باسيل، والذي استطاع، قبل أيام، إطلاق موقفين عنصريين في حق اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، إضافة إلى المرأة اللبنانية. أثار الموقفان اعتراضاً واسعاً على مواقع التواصل، لكن الأمر توقف عند هذا الحد. فالرجل له مواقف سابقة كثيرة تندرج في السياق نفسه، وتعبّر عن أيديولوجيا الحزب البرتقالي الذي يمثله، ويشكّل ركناً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية. وبالتالي، فإن السؤال حول عدم أهليته لتولي المنصب بات يمر عابراً.
استراتيجية إفقاد الدهشة معممة، وتسير باطّراد من بلد إلى آخر، ومن المتوقع أن نرى منها المزيد، من دون دهشة.
على هدي هذه القاعدة، يسير القائمون على الدول العربية في مسعاهم إلى دفعنا للتعامل مع كل حدث أو موقف بأنه شيء طبيعي وعادي، ولا داعي للوقوف أمامه كثيراً. هكذا مثلاً باتت تمر تصريحات عديدة أمامنا في وسائل الإعلام مرور الكرام، إذ لم تعد تسترعي اندهاشاً كثيراً. الأمر نفسه بالنسبة إلى الأحداث الجسام، التي تشهدها بعض الدول العربية، وأصبحت شيئاً مألوفاً بالنسبة إلى المواطنين، لا يدعو إلى الاستغراب أو الاعتراض، لتتحول الأمور شيئاً فشيئاً إلى نوع من التعايش مع واقعٍ مفروض، لا أمل في تغييره.
كانت مثل هذه السياسة متبعة منذ زمن طويل، وأثبتت فعاليتها، وها هي تعود بقوة مع الأنظمة الجديدة في العالم العربي، والتي كان من المفترض أن تمثّل مرحلة التغيير. ولعل النموذج المصري أساسي لإعطاء مثال على الحال التي أوصل إليها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، البلاد.
منذ توليه الحكم، دأب السيسي على إطلاق مواقف كثيرة، كانت تثير درجةً عالية من الدهشة والتساؤل المتمحور حول فكرة "كيف يمكن أن تصدر مثل هذه التصريحات عن رئيس أكبر دولة عربية؟"، "وهل هذا الرجل فعلاً مؤهل ليكون رئيساً؟". مثل هذه التساؤلات، خرجت عند كلامه عن نفسه بأنه "طبيب"، وحين أطلق عبارته التاريخية "ما يصحش كده"، وغيرها الكثير الكثير من المواقف والإفيهات التي من المفترض أن تكون من اختصاص الممثلين الكوميديين، وليس رؤساء الجمهوريات.
مع الوقت، لم تعد مواقف السيسي تثير أي درجةٍ من الاستغراب، ليس فقط في الشارع المصري، بل حتى في الأوساط العربية التي كانت تتشارك مع المصريين دهشتهم. اختفت الدهشة، ومعها اختفت التساؤلات حول أهلية الرجل لتولي الحكم، وأصبحت أفعاله تمرّ، بشكل عابر، على أنظارنا ومسامعنا. من هذه الأفعال التي لم تأخذ حظها من الاهتمام، ما قاله السيسي من على منبر الأمم المتحدة حول الدولة الفلسطينية، و"خرج به عن النص المكتوب" على حد قوله. السيسي، ومثلما فعل قبل أشهر، حين أطلق مبادرته للسلام، تعامل مع القضية الفلسطينية بالمنطق الاستشراقي نفسه، ووعد الإسرائيليين بـ "المزيد من الازدهار"، في حال تنازلوا ووافقوا على منح الفلسطينيين دولة. الأنكى إعطاؤه "النموذج المصري" مثالاً يحتذى في العلاقة مع إسرائيل. لم تثر هذه العبارة الدهشة، ولم يتوقف كثيرون عند هذا التباهي بالعلاقة مع إسرائيل، والذي يعلنه السيسي، ويكرس فيه مصر دولةً متعاونة مع الاحتلال.
وعلى هذا المنوال، يمكن إدراج قصص مصرية كثيرة تدخل في إطار "فقدان الدهشة". على سبيل المثال، كان بث التلفزيون المصري الرسمي مقابلة مع السيسي أجريت قبل سنتين، وتقديمها على أنها حديثة، أيضاً حادثة غرق العبارة ومقتل 150 شخصاً، مرت من دون دهشةٍ كثيرة، مجرد استنكار عابر باعتبار المسألة باتت شيئاً طبيعياً.
استراتيجية إفقاد الدهشة ليست حكراً على النظام المصري، فهي متبعة في دول عربية كثيرة، ويمكن إدراج مثال لبناني سريع، يقدمه وزير الخارجية، جبران باسيل، والذي استطاع، قبل أيام، إطلاق موقفين عنصريين في حق اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، إضافة إلى المرأة اللبنانية. أثار الموقفان اعتراضاً واسعاً على مواقع التواصل، لكن الأمر توقف عند هذا الحد. فالرجل له مواقف سابقة كثيرة تندرج في السياق نفسه، وتعبّر عن أيديولوجيا الحزب البرتقالي الذي يمثله، ويشكّل ركناً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية. وبالتالي، فإن السؤال حول عدم أهليته لتولي المنصب بات يمر عابراً.
استراتيجية إفقاد الدهشة معممة، وتسير باطّراد من بلد إلى آخر، ومن المتوقع أن نرى منها المزيد، من دون دهشة.