فساد ساركوزي: فرص النجاة ضئيلة

03 أكتوبر 2019
تترابط القضايا التي تلاحق ساركوزي (جوليان ماتيا/الأناضول)
+ الخط -
بعد عامين ونصف العام من معارك الإجراءات القضائية، وبعدما استنفد فريق من أشهر المحامين الفرنسيين كل السبل لتجنيبه المثول أمام المحكمة، بات شبه حتمي اليوم أن حكماً قريباً سيصدر بحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بتهمة الإنفاق المفرط خلال حملة الانتخابات الرئاسية في العام 2012، والتي كان يسعى فيها الأخير لولاية ثانية، لكنه هزم أمام منافسه الاشتراكي فرنسوا هولاند. هذا الحكم، الذي قد يأمر بسجن الرجل لمدة عام، يضاف إلى فضائح أخرى ينظر فيها القضاء بحق ساركوزي، قد تشكل بداية النهاية لمسيرته السياسية وحتى الشخصية، هو الطامح أبداً للعودة إلى الإليزيه.

يرتبط العد العكسي بمسيرة ساركوزي السياسية منذ وصوله للرئاسة عام 2007، بعدما كان قد فاز بشعبية كبيرة ضد منافسته سيغولين رويال عام 2007. وفي 2012، أعاد ساركوزي فرنسا لعصر الرؤساء الذين يحكمون ولاية رئاسية وحيدة للمرة الأولى منذ فاليري جيسكار ديستان (1974 - 1981)، بهزيمته أمام هولاند، ليبدأ الفأل السيئ يلاحقه على شكل سلسلة متلاحقة من القضايا لا تزال تنتظر أمام المحاكم، وليفشل في العام 2017 في الحصول على دعم حزبه "الجمهوريون" لدخول السباق الرئاسي.


وفي آخر فصول النكسات المتلاحقة، رفضت محكمة النقض الفرنسية، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، أول من أمس الثلاثاء، آخر طلب للرئيس الفرنسي الأسبق لتفادي محاكمة بتهمة "تمويل غير قانوني لحملة انتخابية"، في القضية المعروفة باسم "بغماليون". والجريمة يمكن أن تكون عقوبتها السجن لمدة عام، وغرامة بقيمة 3750 يورو، ويقول ساركوزي ومحاموه إنه حوكم بها أصلاً في العام 2013. ويضاف قرار المحكمة إلى آخر صدر في مايو/ أيار الماضي عن المجلس الدستوري، ليجعل من محاولة ساركوزي النجاة من المحاكمة مستحيلة، وليكون على الأرجح ثاني رئيس جمهورية فرنسي، بعد الراحل جاك شيراك، يدينه القضاء.

ويلاحق ساركوزي في قضية "بغماليون" لتجاوزه النفقات المسموح بها في الحملة الانتخابية (2012) بأكثر من 20 مليون يورو، رغم تحذيرات الخبراء المحاسبين في حملته في مارس/ آذار وإبريل/ نيسان من ذلك العام. وكان قاضي التحقيق سيرج تونير قد أمر في فبراير/ شباط 2017، بإحالة رئيس فرنسا الأسبق و13 شخصاً آخر للمحاكمة في القضية، لكن الأمر بقي معلقاً حتى اليوم بسبب سلسلة من الاعتراضات، منها أن ساركوزي اعتبر أنه سبق أن تمت معاقبته في الوقائع التي يتهمه بها المجلس الدستوري في العام 2013. وكان المجلس حينها قد أكد رفض التصديق على حساباته بسبب تجاوز سقف الإنفاق الذي اضطر لتسديده. لكن المجلس يقول اليوم إن العقوبتين المالية والجنائية مختلفتان. وكانت القضية تتعلق حينها فقط بـ363 ألف يورو تم الانتباه إليها قبل أن تنكشف في ربيع 2014 منظومة واسعة لفواتير مزورة هدفها تزييف نفقات تجمعات ساركوزي التي كانت تنظمها وكالة الاتصال "بغماليون"، ما يعني أن حزب "التجمع من أجل حركة شعبية" ("الجمهوريون" اليوم) وجد نفسه في نهاية حملة ساركوزي في 2012، أمام فاتورة تصل إلى ما يقرب من 43 مليون يورو (42.8 مليون دولار)، أي ضعف ما هو مسموح به، وهو 22 مليوناً ونصف مليون يورو. 

وقال محامي ساركوزي إيمانويل بويونكا، أول من أمس، رداً على قرار المحكمة، إن "الرئيس ليس معنياً بالوقائع التي تهم بغماليون، بل فقط بتجاوز سقف الإنفاق"، معرباً عن أسفه للقرار. ومن المتوقع صدور الحكم في أي وقت ابتداء من 2020.

ولطالما جادل ساركوزي بأنه لم يكن على علم بنظام التحويلات الذي وضع ليسمح له بإدارة حملته الانتخابية الرئاسية الأخيرة، لكن دفاعه بدا ضعيفاً، خاصة مع ظهور ملف لرسالة هاتفية تشي بعلمه بالموضوع.

وإلى جانب قضية "بغماليون"، يلاحق ساركوزي، منذ سنوات طويلة، بثلاث قضايا، هي إلى حدّ ما مترابطة، وفي رعاية أشهر القضاة الفرنسيين. فخلال الأشهر المقبلة، ستجري محاكمة الرئيس الفرنسي الأسبق في قضية التنصت (قضية بيسموث) التي استنفد فيها كل الطعون. ويواجه ساركوزي في هذه القضية تهم "الفساد" و"استغلال النفوذ"، وهو مُعرَّض في حال إدانته للسجن لمدة 10 سنوات. وتحوم شبهات في هذه القضية حول حصوله على معلومات سرّية، عن طريق محاميه تيري هيرزوغ، من قبل القاضي جلبر أزيبير، تتعلق بالتحقيق في قضية هبات قدمتها الميليارديرة ليليان بيتنكور، وريثة مجموعة "لوريال" التجميلية، وهي قضية تنصت أخرى بُرِّئ فيها ساركوزي.

وبحسب معلومات حصلت عليها الشرطة الفرنسية التي كانت تتنصت على اتصالات الرئيس الفرنسي الأسبق بمحاميه، فقد وَعَدَ ساركوزي القاضي جلبر أزيبير بالتدخل من أجل حصوله على وظيفة سامية في إمارة موناكو، وهو ما لم يحصل في نهاية المطاف. ويُلاحق في هذه القضية أيضاً محاميه وأزيبير، بتهمتي الفساد واستغلال النفوذ، إضافة إلى انتهاك السر المهني. وجاء اكتشاف هذه الصفقة عن طريق الصدفة، بسبب التنصت على الرئيس ومحاميه في قضية أخرى، هي "التمويل الليبي"، إذ اكتشفت الشرطة أن ساركوزي يتوفر على هاتف نقّال سري، فتحه باسم مستعار هو بول بيسموث، لغرض التواصل بعيداً عن كل تلصص مع محاميه.

وعلى الرغم من احتجاجات ساركوزي من استغلال هذا التنصت مستقوياً باجتهاد للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان صدر في يونيو/ حزيران 2016، إلا أن محكمة النقض تركت للمحكمة، التي سيَمثُل أمامها ساركوزي، حرية الحسم في الموضوع.

أما القضية الثالثة، وهي ما يعرف بـ"التمويل الليبي" لحملة ساركوزي الانتخابية عام 2007، فيحاول القضاة الفرنسيون معرفة ما إذا كان المرشح ساركوزي قد استفاد من أموال ليبية في حملته الانتخابية، عن طريق الوسيط الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين، كما يؤكد هذا الأخير، بشكل علني. ويُتَابَع ساركوزي بتهم "فساد سلبي" و"تمويل غير قانوني لحملة انتخابية" و"إخفاء أموال عامة ليبية"، وتم وضعُهُ تحت المراقبة القضائية، حتى لا يتصل بمتهمين آخرين في القضية ذاتها، ومن بينهم صديقه المقرب بريس هورتوفو.

ومثل كل قضايا ساركوزي، يحرص رئيس الجمهورية الأسبق، الذي يكرر في كل مناسبة براءته في هذه القضية، والتي يعتبرها محاولة انتقام من أقرباء الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، بسبب دوره في "تحرير" الشعب الليبي من الديكتاتور، على استخدام كل الطعون الممكنة، ومن بينها احتجاجه على وضعه في قفص الاتهام، وعدم احترام الحصانة الرئاسية، ويطالب بإلغاء قسم كبير من التحقيقات.

وعلى الرغم من استدعائه في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي أمام قضاة التحقيق، إلا أن ساركوزي رفض الإجابة عن أسئلتهم، متذرعاً بأنه ينتظر الجواب، الذي سيعلن عنه في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، على الطعون التي تقدَّم بها. وفي هذا الصدد، أوصت النيابة العامة لمحكمة الاستئناف، أول من أمس، برفض طلب ساركوزي، وهما ما يعتبران خبرين سيئين سقطا على رأسه في اليوم ذاته.

وفي حال إدانة ساركوزي بقضية التمويل الليبي، فستكون عقوبتها أقوى من سابقاتها. إذ يعاقب القانون على الإدانة بتهمة "الفساد السلبي" بالسجن لمدة 10 سنوات، وغرامة قدرها مليون يورو، بحسب القانون الجنائي. وفي ما يخص تهمة "تمويل غير قانوني لحملة انتخابية"، فالقانون يعاقب عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات (بعدما كان سنة واحدة حتى 2007)، وبـ45 ألف يورو غرامة (بعدما كان سابقاً 3750 يورو). وأخيراً في ما يخص تهمة "إخفاء أموال عامة ليبية"، فالقانون، وبحسب المادة 321-1 من القانون الجنائي، يعاقب بخمس سنوات سجن، وبـ375 ألف يورو كغرامة.

وأخيراً، تأتي القضية الرابعة، وهي مرتبطة بقضية التمويل الليبي الأولى، ولا تزال قيد التحقيق، وتتعلق بصرف ساركوزي بشكل منتظم لأوراق مالية من فئة 500 يورو في العام 2017. وكانت الشرطة الفرنسية قد اكتشفت أثناء تفتيشها منزل بائع التحف الفنية كريستيان ديديي، في ذلك العام، مغلفاً يحمل اسم نيكولا ساركوزي ويتضمن صكاً باسم الرئيس الأسبق وأربع أوراق نقدية من فئة 500 يورو، من أجل شراء تحفة فنية قديمة. وبرر ساركوزي ذلك بأن مساعدة له كانت تذهب إلى المصرف شهرياً وتقوم بسحب ألفي يورو بكميات كبيرة، وخاصة فئة 500 يورو. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التصرف، أي سحب فئة 500 يورو، قانوني. لكن اكتشاف أن نيكولا ساركوزي كان يستخدم في العام 2017 بشكل منتظم كميات كبيرة من الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة، دفع مكتب المدعي العام لإجراء تحقيق، دون إمكانية العثور حتى الآن على علاقةٍ ما بين هذا الاستخدام وما عُثر عليه في بيت تاجر التحف الفنية الباريسي، لتبدو القضية وكأنها تغوص في الوحل، بحسب تعبير موقع "ميديابارت" الذي كشفها.  

في المحصلة، سيكون ساركوزي محظوظاً جداً إن أفلت من هذه الفخاخ التي تلاحقه. في كتابه الأخير "الشغف"، الذي صدر في يونيو/ حزيران الماضي، قال ساركوزي "أحب الفوز، وحاربت دائماً من أجله". اليوم، وبعد كل هذه الاتهامات، وكل الأموال التي صُرِفت من جيوب دافعي الضرائب الفرنسيين، سيكون من الصعب على الرئيس الأسبق الفوز، كما يشتهي.