فساد النُخبة وبُنية النظام السياسي

11 يونيو 2014

البساط الأحمر أمام مقر الرئاسة الفلسطينية لأوباما (مارس/2013/فرانس برس)

+ الخط -
على امتداد سنوات فلسطينية مريرة ودامية؛ تغلبت ذرائع التكتم على الرزايا والمفاسد، وأُحبطت دعوات المصارحة بها، توطئة لمعالجتها، بذريعة أن القضية تمرّ بمنعطفات خطيرة، وأن العدو هو المستفيد الأول من "نشر الغسيل". عبثاً حاول الراغبون في الشفافية، إقناع من يُصرون على التكتم، أن "المنعطفات الخطيرة" تستوجب التوقف لإصلاح عرباتنا، "لكي لا تسخر الطرقات منا"، حسب كلمات شعرية لمحمود درويش. وأن الأوجب الذي يلائم قضايانا، ويجنبها عوامل الضرر من الداخل، هو ألا يضم الجمع، متسخين ذي غسيل يشبههم، لكي لا يكون هناك خلاف حول نشره، أو عدم نشره!

بنية النظام السياسي، في أي بلد، عندما تتحجر، وتُصاب المؤسسات الدستورية بفشل كلوي تام؛ يمتد حبل النميمة ويتفرع، ويتعمق الإحساس لدى المتجاوزين، أنهم في مأمن من العقوبة، ولا يؤثر فيهم الكلام العام، الذي يتناول الظاهرة بالجملة، لكنهم يخرّون على الأرض متوسلين زاعقين، مدافعين عن أنفسهم، حين يتناولهم النقد، بالاسم وبالعنوان وبالواقعة. في المقابل، يصبح الذين يشعرون بلا جدوى نقدهم، ميالين إلى المبالغة، وإلى تضخيم ظاهرة الفساد، وتوسيع دائرتها، فتأخذ آخرين بالشُبهة أو بالجملة.

هنا، تتبدّى جليةً فداحة غياب مؤسسات المساءلة الجادة والمحاسبة الحقيقية، في بنية النظام السياسي. وللأسف، تنخرط في منظومة الفساد، نُخبٌ سياسية هي غالباً ذات ألقاب أكاديمية، وتكون وافدةً من أحزاب يسارية، أو من جامعات، وذات صيت لا ينتقص منه فساد، ولا سنوات عمل عقيمة. من هذه النخب، من آوى إلى شبكة المنظمات غير الحكومية، لتأمين خلاصٍ فرديٍّ بأعلى درجات البحبوحة، وهناك من أسكتته وظائف استشارية مجزية وعقود عمل، ومنهم من أتيح له أن يتربح في أكناف السلطة. فعندما تغيب مؤسسة الرقابة والتشريع، ولا تكون ثمة مساءلة، وتتردّى منظومة القضاء، وتغرق النخبة في الفساد، فماذا عسانا أن نفعل، وكيف يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!

سأروي، هنا، مثالاً بسيطاً يتعلق بحال النخبة، وأرويه لسببٍ حصري، هو البرهنة على أن النُخبة التي يفترض أنها أكثر وعياً قد أصابها عفن الفساد. فقد غابت سنوات طويلة، مجلة "شؤون فلسطينية" البحثية التي ظلت تنشر عصارة الفكر السياسي، المتعلق بالقضية الفلسطينية. لم يُعن قطاع أكاديمي، أو سياسي، من النخبة، بالتعاون لتمويل إعادة إصدارها. ولم تجرؤ المنظمات غير الحكومية التي جعلت شغلها الشاغل قضية المرأة والتفاعل المجتمعي، وهي تسترزق من خلال هذه العناوين، وما يشبهها. وبالطبع، لم تُعن السلطة الفلسطينية بإعادة الإصدار، لكنها مع انسداد الأفق، وجدت نفسها معنية جزئياً، مثلما هي معنية بالاستدراك السياسي، والبحث عن بدائل. كُلف رجل محترم، بالوقوف على عملية إصدار "شؤون فلسطينية" فصلية ليست شهرية، بإجمالي ثمانية آلاف دولار شهرياً، لكلفة الطباعة والتحرير والاستكتاب والبريد وغيره. ذهب الرجل إلى المركز المالي المختص، لكي يحصل على المبلغ، فكان الجواب صادماً: هذا المبلغ يُصرف شهرياً، منذ سنوات طويلة (ربما عشرين سنة) لأحد الموصوفين بالجهبذة السياسية والفكرية، وأحد ذوي الدخل المتعدد جداً، وهو خارج دائرة عذاب الفلسطينيين أو مكابداتهم. جرى الاتصال بالرجل، فإذا به يعترف بتلقي هذا المبلغ "المتواضع" شهرياً، وينكر أنه لـ"شؤون فلسطينية". قال إنه لــ"تطوير الموسوعة الفلسطينية"، والموسوعة المذكورة لم تتطور، ولم يفكر الجهبذ في تطويرها أصلاً.

العبرة هنا، أن واحداً من النخبة، على سبيل المثال وليس الحصر طبعاً، ومن القيادة الافتراضية لمنظمة التحرير، بل من المزاودين عليها، يُجيز لنفسه الحصول على مال من مقدرات الشعب الفلسطيني الضئيلة، من دون أي وجه حق، ومن دون أن يؤدي أي عمل. ومن مفارقات طريفة، أن أمثال هؤلاء ضمنوا النجاة وأدمنوا "الاستهبال". إذا كان هذا هو حال النخبة، وفي غياب مؤسسات المساءلة، كيف يتعين على واحدنا أن يلتزم الصمت، وأن يتكتم على الرزايا، في بنُية كهذه للنظام السياسي التي يمكن أن ينهض بعملية تاريخية للتخلص من الاحتلال؟                     
دلالات