المزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الأوروبية باختلاف أنواعها هي الرسالة التي تبنّتها معظم المشاريع الموسيقية العربية خلال القرن الماضي. كان أوّل تبلور واعٍ لها مع سيّد درويش حين أدخل قوالب الألحان الأوروبية في أغانيه، وبلغ ذورته مع جيل محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش (1910-1974).
كان الثالث، إلى جانب استيعابه للمؤثّرَين الشرقي والغربي، يحمل تنويعات مناطقية داخل الموسيقى العربية نفسها، وكانت شخصيته الموسيقية شفّافة تعكس حياته.
نقطة البداية والدتُه علياء المنذر؛ كان أبناء آل الأطرش وقتها يتعلّمون الموسيقى ويعلّمونها أبناءهم كمظهر من مظاهر الترف، ولم يكونوا يتصوّرون أنها ستتحوّل إلى مصدر رزقهم في ملاهي ومسارح القاهرة لاحقاً، ومن هناك دخل فريد إلى عالم الفن.
مرّت الأسرة، وفريد الطفل، قبل الاستقرار في مصر بلبنان، كمحطة، في زمن بطش الاستعمار الفرنسي. هذا المرور كان له أثره في طبع الفولكلور اللبناني في أذنه ووعيه بعد أن هضم الفولكلور السوري عن طريق أمّه.
مرّ فريد أيضاً من الكنيسة حيث كان من بين المنشدين، وقد تلقى نصيحة بالتباكي عند الغناء وهي "تقنية" ظلت تلازمه طوال حياته حتى صارت جزءاً من صوته وشخصية هذا الصوت.
دخول المؤثّر الأجنبي بدأ مع أولى الأغاني التي أدّاها في ملاهي مصر، حين قدّم له مدحت عاصم ألحاناً مثل "كرهت حبك" و"من يوم ما حبك فؤادي" و"ميمي"، والتي لُحّنت على قالب التانغو، ومن قالب الرومبا أغنية "مقدرش". ولعل اقترابه بهذه الجرأة من استيراد القوالب الموسيقية غير العربية هو ما أسّس الرغبة عنده في التجديد لاحقاً، ووجد جيلاً يشاركه هذه الرغبة وينافسه فيها.
لحّن فريد جميع أشكال الغناء العربي عدا الموشّح والدور، وكانت رؤيته أن الألحان هي ترجمة مطابقة للكلمات، وقد تبنّى قضيّة تخليص الغناء العربي من التطريب والتطويل اللذين اعتُبرا عناصر تُركية دخيلة، ولو أن ألحانه للقصائد العربية الفصحى في شكل الأغنية الطويلة ذات المقدّمة الموسيقية والجسم والخاتمة لم تخلُ من هذا التطويل، وكانت أقل أعماله نجاحاً جماهيرياً، لكنه كان أقرب إلى ميولاته في قصائد مثل "يا زهرة في خيالي" و"عدت يا يوم مولدي" و"عش أنت".
كان الأطرش يؤمن بالإلهام اللحظي في التلحين، وتبعاً لذلك كان لا يعود للتعديل على اللحن هروباً من وساوس المعالجة الثانية، ويقال إن عدم رغبته في التعديل هي التي منعته من التعاون مع أم كلثوم لاعتباره أن تعديلاتها هي إهانة لفنّه.
لعل أهم ما يلفت في شخصية الأطرش هو امتزاج المذاقات الموسيقية السورية واللبنانية والمصرية. لقد كان أحد أبرع من ذوّب الفولكلور في الأغنية والتنويع عليه ضمن شخصيّته الموسيقية، ليكون الناتج جُملاً لحنية شديدة الأصالة، أي أن الفلكلور في ألحان فريد يصعب فصلُه عن الجمل اللحنية الخاصة به.
في ارتجالاته الصوتية، نعثر مع فريد على روح الميجانا والعتابا وهما فنّا الموال في الشام اللذان نشأ على سماعهما من أمه. أما تقاسيمه على العود، والتي افتتح بها مقدمات أغنياته الطويلة في الحفلات الحية، فقد حملت الروح المصرية من حيث المقامات والنقلات بين فروعها.
حين اكتملت ملامح شخصية الأطرش الفنية، تقوّت أكثر رؤيته لمسألة المزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية، ولعله من أنجح من عرف كيف يودِع لحناً شرقياً لا تخطؤه الأذن ضمن قالب غربي، كما فعل في أغنية "وياك" و"قلبي ومفتاحو" و"علشان ماليش غيرك".
يمكننا تلمّس علاقة فريد الأطرش مع الموسيقى الغربية في تلحينه أعمالاً لشقيقته أسمهان، حيث يتجلى اتساع أفقه بين الفضاءين في رائعة "ليالي الأنس في فيينا". لكن يمكن ملاحظة أمر آخر، وهو أنه حين تعامل مع أسمهان أظهر قدرة على الحفاظ على شخصية غيره، إضافة لحفاظه على شخصيته هو، كما هو الحال مع أعمال "يا حبيبي الحقني تعالَ شوف اللي جرالي" و"يا بدع الورد" وغيرها.
وحين لحّن لوديع الصافي أغنية "على الله تعود"، صرّح بأنه لحّنها طبقاً للخصائص الوديعية للصوت ومال فيه لاستغلال قدرات صوت رخيم عريض. كما نجد نقلة أخرى حين لحّن لـ صباح أغاني خفيفة مثل "يا دلع دلع" و"أكلك منين يا بطة"و لـ فايزة أحمد "يا حلاوتك يا جمالك" ولحّن لوردة الجزائرية "روحي وروحك حبايب".
ثمة عالم آخر ارتكز عليه فريد في صياغة شخصيته الموسيقية، وهو السينما. وضع الموسيقى التصويرية لـ "انتصار الشباب" ووظّف الكورال في أغاني الأفلام، ومن خلالها ظهرت براعته في قالب الدويتو، في أعمال تقاسمها مع شادية وصباح ونور الهدى. ولعل أغنية "بساط الريح" كانت استعراضاً لمخيّلة تلحينية استطاعت أن تمتدّ عبر الوطن العربي من تونس إلى العراق ومن السودان إلى المغرب.
كل هذه المراحل والعناصر جمعها أفق فريد الأطرش، والذي تختلف ألحانه ومناخاتها، غير أن المستمع لا يزال على اختلاف طبيعة اللحن ومرجعياته قادراً على تمييز أن هذه النغمات له.