وجاءت حادثة اقتراب الكاتب الصهيوني الفرنسي ألان فينكلكروت من تظاهرة السترات الصفراء، السبت الماضي، وما أعقبها من شتائم، تلقفتها وسائل الإعلام، وجعلت منها الخَبَر الرئيس، الذي لا تزال تفاعلاته مستمرة ومرشحة للاستمرار أكثر، والتي دفعت كثيرين لتجريم السترات الصفراء، وآخرين لاتهامها بمعاداة السامية، لتزيد من تأجج النقاش.
وفي السياق، طالب بعضهم، ومنهم صحيفة "ليبراسيون" والكاتب الصهيوني برنار هنري ليفي، الذي لم يُخف قط عداءه لهذا الحراك الاجتماعي، قيادات السترات الصفراء المعروفة بـ"إدانة الاعتداء اللفظي الذي تعرض له فينكلكروت".
وقد انتهز وليفييه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، الذي يضم تيارا كبيرا مؤيدا لإسرائيل، والذي يعيش ظروفا صعبة أبعدت عنه كل حلفائه السياسيين، ويتوقع المراقبون أن يحصد نتائج مهينة في الانتخابات الأوروبية القادمة، ظهور التقرير الذي يتحدث عن تصاعد الاعتداءات المعادية للسامية في فرنسا فدعا الطبقة السياسية الفرنسية إلى تجمع كبير، في باريس، عند الساعة السابعة مساء، في ساحة الجمهورية، وفي مدن فرنسية أخرى، لـ"إظهار الإجماع على إدانة هذه الظاهرة المخيفة"، وهو ما أعلن أكثر من 16 حزبا وتيارا سياسيا عن المشاركة فيه، قبل أن تنضمّ إليه أحزاب وحركات سياسية أخرى بعد حادثة فينكلكروت، التي تعتبرها صفحات فيسبوكية تابعة للسترات الصفراء تخدم الرئيس إيمانويل ماكرون في مخططه لتشويه السترات الصفراء، ومن بين هذه الحركات "فرنسا غير الخاضعة".
وإذا كان الأمين العام للحزب الاشتراكي يريد أن يرى مشاركة الرئيس ماكرون في التجمع، إلا أن الإليزيه نفى حضور ماكرون، فيما أعلن رئيس الحكومة إدوار فيليب مشاركته.
وبدل أن يحضر الرئيس ماكرون إلى جانب زعماء سياسيين من المعارضة والأغلبية في الشارع، يفضل أن يكون ضيفاً على العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، وطبعا إلى جانب معظم القادة السياسيين الفرنسيين، الذي يحجّون، سنويا، إلى هذ اللقاء، ويلقي فيه الرئيس خطابا.
إذن سيعقد "كريف" لقاءه السنوي، في جو من التعاطف الرسمي والسياسي غير المسبوق، وسيحاول أنصارُهُ من السياسيين الفرنسيين، الموجودين في غالبية الأحزاب السياسية، استغلال الأرقام المرتفعة في الاعتداءات المعادية للسامية، العمل على محاصَرة كل الأصوات والحركات التي تنتقد إسرائيل في فرنسا، سواء تعلق الأمر بحركة "بي دي إس"، التي تدعو لمقاطعة البضائع التي تأتي من الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها إسرائيلية، وأيضا على مقاطعة الاستثمارات الفرنسية في المستوطنات الإسرائيلية، أو الأصوات التي تدعو إلى تجريم معاداة الصهيونية.
نواب فرنسيون يريدون تجريم انتقاد الصهيونية
وفي هذا الصدد، ينشط نواب فرنسيون من أجل سنّ قانون يجرم الانتقادات التي توجه للصهيونية.
ولا يقتصر النواب الذين يرغبون في سن القانون على حزب سياسي واحد، إذ يشدد النائب سيلفان مايار، وهو من "الجمهورية إلى الأمام"، على أن حركته في البرلمان ستتقدم في القريب العاجل بمبادرة لجعل معاداة الصهيونية جُرما يعاقب عليه القانون، كما هو شأن معاداة السامية.
وأضاف مايار أنه "يمكن انتقاد إسرائيل، ولكن لا يمكن التشكيك في وجود إسرائيل. فلا أحد يشكك في وجود الدولة الفرنسية أو الدولة الألمانية".
وإلى جانب هذا النائب، يؤكد نواب برلمانيون آخَرون من أحزاب أخرى، كالاتحاد الديمقراطي للمستقلين، والحزب الوسطي "الحركة الديمقراطية" (الموديم) و"الجمهوريون"، دعمهم بالإجماع لهذا الاقتراح.
ولم يتضح بعد ما إذا كان سيتم التصويت البرلماني على قرار بهذا الصدد، أم أن الأمر يتعلق بمشروع قانون، وهو "ما يستلزم كثيرا من الوقت".
وبينما يستنفر مؤيدو هذه المبادرة، التي لا تعتبر جديدة، فقد سبق لرئيس الحكومة الاشتراكي السابق مانويل فالس، وكثير من أعضاء الحزب الاشتراكي، أن اعتبروا معاداة الصهيونية "نوعاً من معاداة السامية"، وهو أيضا موقف الرئيس ماكرون، يعبر آخرون عن الحذر من الاقتراب الشديد من الموضوع، وهو موقف وزيرة العدل نيكول بيلوبي، التي تطالب بـ"توخي الحَذَر فيما نريد إدانته"، مشيرة إلى أن الأمر يتطلب نقاشا في البرلمان.
الموقف نفسه يتبناه وزير التربية الوطنية، جان ميشيل بلانكي، الذي يحذر من "التسابق الدائم نحو معاقبة الأشياء التي لا تروقنا". ويراهن الوزير على دور التربية والنقاش، مشددا "يجب توخي الحذر الشديد من ألا يدفعنا الانفعال إلى فعل أشياء تُظهر فيما بعد أنها لم تكن مُنتِجة".
وأيضا، هناك مواقف أخرى رافضة لهذا التوظيف السياسوي لما حدث، وهو موقف "فرنسا غير الخاضعة"، الذي عبر عنه إيريك كوكريل، حيث أوضح: "موقفنا هو الرفض لهذه المبادرة"، لأنه "يجب أن يكون في استطاعتنا انتقاد سياسة بنيامين نتنياهو، كما ننتقد سياسة الاستبداد الإسلاموي دون أن نُنعَت بأننا معادون للإسلام، أو دون أن ننعت بمعاداة السامية".
وفيما يخص العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، فإن قيادته تريد مواقف وقرارات متشددة من طرف رئيس الجمهورية ماكرون، الذي صرّح قبل أسبوع بأن "معاداة السامية هي نفي الجمهورية".
وقد عبر رئيس المجلس، فرنسيس خليفة، عن أمله في "الخروج من الرُقْية واتخاذ إجراءات حقيقية"، وسمح لنفسه بأن يدافع عن تراتبية في الاعتداءات والأحقاد: "لا يمكن التعامل بنفس الطريقة مع كل الأحقاد"، ويطالب بـ"خطة خاصة لمكافحة معاداة السامية".
وبينما تتحرك الطبقة السياسية لعقد تجمعها المُدين للاعتداءات المعادية للسامية، والذي يحضره رؤساء جمهورية سابقون، منهم نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، وقياديو أحزاب كجون لوك ميلانشون (الذي طالب وزير الداخلية بتوفير الحماية له ولمجموعته البرلمانية) ولوران فوكييز وغيرهم، لا أحد تقريبا يلتفت إلى الاعتداءات الإسلاموفية، التي لا تتوقف عن الازدياد، ولا إلى تفشي العنصرية في المجتمع الفرنسي.
وبينما تحركت كل وسائل الإعلام والدوائر السياسية، من حكومة ومعارضة، لانتقاد التهجم على ألان فنكلكروت، ونسيان مواقفه العنصرية البذيئة، وتناسي غلاف مجلة سياسية فرنسية وصفَت انتخابه في الأكاديمية الفرنسية بـ"وصول عنصري إلى دار الخالدين"، متهمة السترات الصفراء، أو شرائح فيها، بمعاداة السامية، لم تتحرك وسائل الإعلام نفسها حين قام أفراد من السترات بالقبض على مهاجرين قادمين من إيطاليا وتسليمهم إلى قوات الدرك، فلم يتحدث ولم يُدِنْ سوى القليل فقط هذا التصرف العنصري، تميز منهم النائب عن "فرنسا غير الخاضعة" فرانسوا روفان.