مع اقتراب العودة من العطلة الصيفية وما تعنيه من إعادة انطلاق النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفرنسي، يستعد الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يعاني من هبوط حادّ في شعبيته، للتصدّي لاستحقاقات على أكثر من مستوى. وهذه الاستحقاقات ستبيّن، بحسب ناخبيه، مدى جديته في تطبيق "إصلاحات" اقتصادية في فرنسا، على الرغم من قسوتها على المواطن وفشل حكومات سابقة ومختلفة التوجهات السياسية، في فرضها. ومن أبرز الملفات المثيرة للجدل، والتي سارع ماكرون إلى معالجتها قبل العودة من العطلة، ملف السيّدة الأولى. فتقرر وضع "ميثاق شفافية" لتحديد وضعية ووظيفة زوجته، بريجيت ماكرون، من دون ميزانية. والهدف من ذلك يتمثل في إطفاء بوادر التذمّر الشعبي بسبب ما راج عن وضعية "السيدة الأولى"، بكل ما يترتب عن ذلك من تخصيص ميزانية يسدد ثمنها دافعو الضرائب في ظلّ وضع اقتصادي سيئ.
كذلك، تستعد الأحزاب السياسية الفرنسية المعارضة، والتي لا تزال تعاني من آثار الانتخابات الرئاسية والتشريعية السلبية عليها، لإظهار نفسها وتنظيم ما تراه رداً على السياسات الحكومية التي لا تتفق معها. وعلى الرغم من أن حزب "الجمهوريون" هو أكبر حزب فرنسي معارض، من حيث حجم نوابه في البرلمان، وهم مائة نائب، إلا أن الخلافات بين تيارات عديدة في الحزب، منها تيار رئيس بلدية مدينة بوردو، ألان جوبيه، والملقب بالأب الروحي لرئيس الحكومة الحالي، إدوار فيليب، وتيار آخر يتزعمه كل من رئيس منطقة "أو-دو-فرانس" (شمال)، كزافيي بيرتران، ورئيسة منطقة "إيل-دو-فرانس"، فاليري بيكريس، وتيار يقوده الوزير السابق لوران فوكييز، تحول دون الاتفاق حول موقف موحد من الحكومة وسياساتها.
هذه الخلافات التي ستتفاقم مع اقتراب موعد انتخاب قيادة جديدة للحزب، يومي 10 و17 ديسمبر/ كانون الأول 2017، جعلت الاستعدادات للعودة من العطلة الصيفية بعد أيام، تتم بطريقة مشتتة. فتيار جوبيه سيجتمع في بوردو، غداً الجمعة، في حين ستعقد الجامعة الصيفية لشبيبة حزب "الجمهوريون" في مدينة توكي، يومي 26 و27 أغسطس/ آب الحالي، بينما سينظم تيار فوكييز، الطامح لرئاسة الحزب اليميني، لقاءه السنوي في "مون-ميزينك" (جنوب مدينة ليون) في الثالث من سبتمبر/ أيلول المقبل.
أما حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، فلا يزال يعاني من تداعيات هزيمته في الانتخابات الرئاسية، ومن عجزه عن تكوين مجموعة برلمانية، وتفاقم الصراعات الداخلية وتصفية الحسابات بين قادته. وكل هذه العوامل أصابت الحزب بحالة من الوَهَن الذي بات من الصعب علاجه بشكل كامل في المدى المنظور، حتى وإنْ كان استهداف الرئيس ماكرون وسياساته، بشكل صريح وعنيف، هو الهدف الرئيس لـ"الجبهة الوطنية" من الآن فصاعداً. وهذا التوجه السياسي سيتم تكريسه في توصيات "جامعة مُنتَخَبي الحزب" التي ستنعقد يوم 24 سبتمبر/ أيلول المقبل.
وفي ما يتعلق بمكونات اليسار، فإن أكثر الأصوات صخباً في الشارع وفي البرلمان، هي أصوات نواب حركة "فرنسا غير الخاضعة". وكانت هذه الحركة السياسية حظيت بمديح نادر من قبل صحيفة "لوفيغارو" اليمينية، يوم 10 أغسطس/ آب، حين وصفتها بأنها "المعارض الأول للحكومة"، بسبب "استخدامها لوسائل اتصال وتعبير مبتكرة". وأضافت "في الوقت الذي كان فيه عدد نواب الحركة القليل في البرلمان سيسبّب خفوت أصواتهم، عزَّزَ، على العكس، من انسجامهم وجعل راديكاليتهم لاذعة بشكل أكبر". وتابعت الصحيفة تعليقها بالقول "كما أن قراراتهم تتخذ من الأعلى، وفي اجتماعات داخلية، وهو ما يمنحها صفة التنسيق. وتحت قبة البرلمان يحرصون على أن يظهروا كتلة واحدة، يتلقف أحدهم كلام الآخر حتى لا تتناثر مقاعدهم أبداً، وحتى يظهروا، في نهاية الأمر، قوة المعارَضَة الوحيدة"، وفق ما ورد في صحيفة "لوفيغارو". ومع العودة من العطلة الصيفية، ستنظم الحركة لقاءً، نهاية هذا الأسبوع، في مدينة مارسيليا، حيث استوطنها بنجاح وانسيابية زعيمها جان لوك ميلانشون، الذي تحذره صحيفة "لوفيغارو" من "منافس قادِم وخَطِر وصعب الترويض لن يتأخر انفلاته، ولا يقل شعبية وكاريزما عنه، إضافة إلى صغر السن، وهو زميله ورفيقه المخرج السينمائي الناجح والصحافي اللامع، فرنسوا روفان". وسيحضر أكثر من 2000 شخص هذا اللقاء السياسي الذي سيوجه فيه ميلانشون خطاباً سياسياً من أجل الاستعداد لكل المعارك المقبلة، والذي سيشهد حضور ضيف كبير، هو الرئيس السابق لجمهورية الإكوادور، اليساري رافائيل كوريا.
من جانب آخر، لا يزال الحزب الاشتراكي الفرنسي في معضلة حقيقية. ولعل أكبر دليل على ذلك تراجع أدائه في البرلمان الجديد. ويشهد الحزب نقاشات داخلية حادة حول بيع مقره الرئيسي المعروف باسم "سولفرينو"، في الدائرة الباريسية السابعة، بسبب صعوبات الحزب المالية والناتجة عن ضعف تمثيله في البرلمان. كما أن الجامعة الصيفية السنوية في مدينة لاروشيل، لن تعقد هذا العام، وتم تعويضها باجتماع قيادة الحزب الجماعية المؤقتة، نهاية هذا الأسبوع في باريس.
والأحزاب الأخرى لا وجود لها إلى حد ما، وتبدو عديمة التأثير، خاصةً حزب الخضر الذي حصد نتائج ضعيفة ومخيبة لكل الآمال. وتراجعت وضعية هذا الحزب، الذي كان قوياً قبل سنوات، بسبب انفتاح ميلانشون الكبير في برنامجه على المسائل البيئية، وأيضاً بسبب إغراء الرئيس ماكرون لأحد الناشطين البيئيين بالدخول في حكومته ومنحه وزارة مهمة هي وزارة "الانتقال البيئي والتضامن"، ويتعلق الأمر بنيكولا هولو، إضافة إلى منحه رئاسة الجمعية الوطنية الفرنسية إلى شخصية آتية من التيار البيئي، وهو فرانسوا دو روغي.
في المحصلة، لن يَتواجَه الرئيس ماكرون وحكومته، مع استئناف النشاط العام في فرنسا بعد العطلة الصيفية، سوى مع بعض النقابات العمالية ومع حركة "فرنسا غير الخاضعة"، والحزب الشيوعي، فضلاً عن دخوله في مناوشات مع اليمين واليمين المتطرف.