بكل الأحوال، يجمع عدد كبير من المراقبين والسياسيين يمينا ويساراً، على أن هولاند تحلى بشجاعة كبيرة، عندما فضل التخلي عن حلم ولاية رئاسية ثانية والانسحاب من المشهد السياسي، ليتجنب هزيمة نكراء متوقعة إن هو ترشح للانتخابات التمهيدية داخل حزبه مثلما حصل مع خصمه اللدود الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في انتخابات اليمين والوسط التمهيدية الأخيرة. وما يعزز من هذه الفرضية، هو ما جاء في كلام هولاند نفسه، في "خطاب التخلي"، مساء الخميس، وهو تاريخ انطلاق الترشيحات لانتخاب اليسار التمهيدية، بقوله "لن أقبل تشظّي اليسار"، مع أن كثيرين من اليسار يحمّلونه مسؤولية كبيرة في هذا التشظّي من خلال سياساته "اليمينية" اقتصادياً وهفواته الشخصية والخلافات الكبيرة التي راكمها خلال خمس سنوات من رئاسته، وألّب ضده الأصدقاء قبل الأعداء بسبب الكتاب الذي خصصه له الصحافيان جيرارد دافي وفابريس لوم والذي صدر قبل حوالي شهر بعنوان "من المفروض ألا يقول الرئيس هذا" والذي تضمن العديد من الانتقادات الصادمة لعائلته السياسية وللقضاء، وحتى للاعبي كرة القدم الذين وصفهم بالأغبياء.
وتحولت الحكومة الاشتراكية والحزب الاشتراكي في الأيام الأخيرة إلى ما يشبه المدفن لآمال هولاند الرئاسية، إذ إن عدداً كبيراً من الوزراء والشخصيات القيادية باتت لا تخفي استياءها منه وباتت تشكك في قدرته على تمثيل الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية المقبلة بسبب هفواته المتكررة وانهيار شعبيته لدى الرأي العام. كل هذه المعطيات جعلت من سيناريو تقدم هولاند إلى الرئاسيات وإقصائه المتوقع في الدور الأول، يعني موتا محققاً للحزب قد يدوم سنوات طويلة، وهذا ما خلق حالة من الهلع والبلبلة في صفوف الاشتراكيين مخافة من هذا السيناريو القاتل.
هكذا إذاً، وضع هولاند في خطابه ليل الخميس، حداً لمسلسل من الترقب دام شهوراً طويلة امتنع خلالها عن إعطاء أي إشارة واضحة في معسكره لناحية نيته الترشح أو لا لولاية ثانية، وهو المسلسل الذي زاد في تعميق الخلافات حوله وأفقده المزيد من المصداقية حتى في أوساط أشد مناصريه. وعكست بعض الصحف الفرنسية حجم الحدث بعناوين من نوع: "النهاية" (لوفيغارو اليمينية) و"بدوني" (ليبراسيون اليسارية). وهولاند، بتخليه عن الترشح، قدم هدية للحزب الاشتراكي وتحديداً لرئيس وزرائه مانويل فالس الذي يطمح للترشح بشكل حماسي، وكاد يفقد صوابه في الأسابيع الأخيرة عندما انتقد علناً هولاند ولمح بقوة إلى رغبته في الترشح للرئاسيات في سابقة "خطيرة" بالنسبة للتقاليد السياسية الفرنسية، قلما ارتكبها رئيس وزراء في حق رئيسه خلال ولايتيهما. غير أن مبادرة هولاند تفتح أيضاً الباب على مصراعيه لفترة من الاضطرابات والقلاقل داخل المعسكر الاشتراكي في أفق الانتخابات التمهيدية المقررة في 22 يناير/كانون الثاني المقبل.
وإضافة إلى فالس الذي يتوقع أن يعلن ترشحه في الساعات القليلة المقبلة، وثلاثة مرشحين مغمورين هم مارين نويل لينمان وديرار فيلوش وبيار لاروتور، هناك مرشحان اشتراكيان بارزان يمثلان تيار "الساخطين" هما أرنو مونتيبورغ وبونوا هامون اللذان سيتحركان بشراسة في مواجهة فالس ويركزان على انتقاد حصيلة فالس الحكومية الهشة. ومن الآن حتى 15 ديسمبر/كانون الأول الحالي، تاريخ إغلاق الباب أمام الترشح للانتخابات التمهيدية عند اليسار، ليس من المستبعد أن يبرز مرشحون آخرون يزيدون حماوة التنافس. وهناك من يراهن على ترشح وزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا في هذه الانتخابات نكاية بخصمها فالس وبالتيار الليبرالي والإصلاحي الذي يمثله داخل الحزب. وما يعزز من هذه الفرضية هو الشعبية الكبيرة والنجاح السريع الذي حققته عريضة وقعها حتى الآن أكثر من 70 ألف شخص تطلب من توبيرا الترشح للتمهيديات داخل الاشتراكي. كما أن هناك من يطرح علامات استفهام حول الدور الذي قد تؤديه الأمينة العامة السابقة للحزب الاشتراكي، مارتين أوبري، المعروفة بعدائها الشديد لفالس وانتقاداتها الشرسة لسياساته الليبرالية، وهي التي تصنف في خانة يسار الحزب. من هنا، يتوقع إما أن تترشح أوبري ضد فالس أو على الأقل أن تساند المرشحين الساخطين عليه. ولم تتوقف أوبري (التي خسرت بطاقة الترشيح الاشتراكي في 2012 أمام هولاند) في الفترة الماضية عن تقديم النصح لرئيس الحكومة بـ"ضرورة احترام الوظيفة" وإخفاء اعتراضاته على الرئيس أو رغباته في الترشح.
أيضاً، يشكل انسحاب هولاند هدية لوزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون الذي أعلن ترشحه للرئاسة بشكل مستقل من دون خوض معركة التمهيديات في صفوف الحزب الاشتراكي. ذلك أن ماكرون يبني استراتيجيته على الدعوة للقطيعة مع مرشحي المؤسسة الحزبية يميناً ويساراً، وانسحاب هولاند بعد ساركوزي وجوبيه يدعم حظوظه في تلميع صورته كبديل شاب للنخبة السياسية المتقادمة. ويلقي رئيس الوزراء اليوم السبت خطاباً في تجمع انتخابي في باريس دعا اليه الحزب الاشتراكي حيث ربما يعلن ترشيحه رسمياً.
وفي أول استطلاع للرأي يجرى بعد الإعلان التاريخي لهولاند، عبّر نحو 24 في المائة من المستطلعين عن تأييدهم لترشح مانويل فالس باسم اليسار مقابل 14 في المائة لمونتبورغ و6 في المائة لهامون. استطلاع يؤكد أن فالس هو أكبر المستفيدين من قرار هولاند، إلا أنه، مع ذلك، حرص على إظهار "تأثره واحترامه ووفائه ومودته" لفرانسوا هولاند في قراره "الصعب والناضج والخطير، والذي هو خيار رجل دولة" على حد تعبير فالس. أما بونوا هامون فقد رأى في قرار الرئيس "إقراراً بعدم القدرة على تجميع اليسار" مصراً على أن "اليسار في وضعية سيئة، ولكنه لم يتهدم". في حين أن ماكرون رأى أنه "من الصعب التعبير عن هذا القرار مثلما هو من الصعب اتخاذه، مهما كانت شعبية صاحبه سيئة". وكان المرشح اليساري الراديكالي، جان لوك ميلونشون، أول المرحّبين بقرار فرانسوا هولاند، مشددا على أن رئيس الجمهورية، ومعه رئيس حكومته، لم ينفذا أي سياسة يسارية في البلد". هكذا سيبقى هولاند خمسة أشهر أخيرة في ولايته الرئاسية ويحكم من دون أن يشغل باله بالانتخابات المقبلة.