فرحة ما تمت

08 ديسمبر 2015

لوحة للفنان صادق الفراجي

+ الخط -

كان، في الصباح، يتوجه إلى عمله الجديد، بعد بطالة طالت سنوات، لم تسعه الفرحة ولم يتركه الحزن، مشاعر متناقضة ومتزاحمة في قلبه، فابنه الكبير طلب منه ثمن كتابٍ للمدرسة، والأصغر المدلل أشار إلى ثقبٍ كبيرٍ في بنطاله، وطلب منه أن يشتري له بنطالاً جديداً. وأمام هذين الطلبين، شعر بعجزه، فهو لا يملك قرشاً واحداً، لكن فرحته كانت عظيمة، حين دقّ بابه أحدهم، وأخبره أن اسمه كان ضمن قائمة أسماء العمال الذين سيعملون، مؤقتاً، في إزالة ركام البيوت التي هدمت خلال العدوان على غزة.

 في ساعات العمل الأولى، تذكّر أنه نسي، في غمرة سعادته ولهفته، أن يتعاطى دواءي الضغط والسكري. وبدأ يشعر بآلام في صدره، وحاول التحامل على نفسه، إلا أن الألم اشتد، فوقع أرضاً بين الركام، فحمله العمال الآخرون إلى المشفى، ليتبين أنه أصيب بجلطة في الدماغ، ولم يلبث أن  توفي.

شابٌ آخر لم تسعه الفرحة، أيضاً، حين حصل على عمل مؤقتٍ، عامل نظافة في جامعةٍ لشهرين، وهو رب أسرة صغيرة. وفي اليوم الثاني لاستلامه العمل، كان يقوم بعمله في التنظيف، حين اشتم رائحة غاز منبعثة من أحد المختبرات، فأسرع ليستطلع الأمر، وبمجرد أن فتح الباب، دوّى صوت انفجار مريع في المكان، أعقبه حريق هائل، أدى إلى إصابته مباشرة بحروقٍ من الدرجة الأولى، قضى على أثرها نحو أسبوعين في المشفى، حتى توفي تاركاً أسرته وأحلامه وفرحته التي لم تتم.

يحصل آلاف من المواطنين في غزة على أعمال مؤقتة، لا تزيد مدتها عن ستة أشهر، تحت بند ما يعرف "البطالة"، وقد يستغرب السامع حين يوجه السؤال إلى أحدهم عن عمله الحالي، فيرد: "أعمل في البطالة". فهذا التناقض في الرد يعني أنه قد فاز، وبعد جهد جهيد وانتظار طويل، بفرصة عمل، ليست في مجال تخصصه ضمن برامج تشغيل العاطلين الذي استحدثته منظمات إغاثية دولية ومؤسسات حكومية ومعروف رسمياً باسم "برنامج خلق فرص عمل". وهنا الكارثة، لأن الذين يلتحقون بهذه الأعمال المؤقتة يفتقرون إلى الخبرة حيث يتم زجهم في مؤسسةٍ ليست بحاجة لهم غالباً، ولا يحصلون على دورات سريعة، مثلاً، للتعامل مع الآلات والأجهزة، ولا حتى دورة إسعاف ووقاية وأمان في حال اندلاع حريق، ما يشكل خطراً على حياتهم. وفي النهاية، قد يفقد أحدهم حياته، كما حدث مع النموذجين السابقين، ويترك عائلته بلا معيل أو تعويض أو عوائد تأمين، فهم يحصلون على راتبٍ بأجرةٍ يوميةٍ، تحسم منه أيام الغياب والعطلات الرسمية، علاوة على الضرر النفسي الذي يعانونه، حين يعمل خريج الهندسة، مثلاً، حارساً ليلياً، أو عامل نظافة، أو مساعد معلم مرحلة ابتدائية، يقوم بحفظ النظام للمعلم الأساسي، لكي يستطيع شرح الدرس للصغار المشاغبين.

في صغري، وفي أثناء متابعتي المسلسلات المصرية، كنت أسمع عبارة يفضفض بها شاب مصري لصديقٍ، أو حبيبةٍ، بعد مرور سنوات على تخرجه من الجامعة، وهو بلا عمل، وتوجهه لممارسة مهنة بائع جائل مثلاً: هل كان علي أن أقبع في البيت مثل النساء، وأنتظر "جواب القوى العاملة". كنت أسرح مع هذه العبارة، وأعتقد أن هذا "الجواب"، أي خطاب التعيين، مفتاح الجنة، أو الحل السحري لمشكلة شاب خريج يضج بالحيوية والعطاء والطموح. ولكن، حين كبرت، وبدأت برامج تشغيل العاطلين في غزة تتسع وتستوعب الرجال والنساء في أعمالٍ لا تمت لتخصصاتهم بصلة، فهمت أن ذلك الخطاب دواء مسكن لمعضلة البطالة الآخذة في التفشي، في فلسطين ودول عربية عديدة.

بعد وفاة الأب الذي سقط في أثناء أعمال البناء والتجريف، عثر ذووه في جيبه المهترئ على ورقة نقديةٍ، دسها له مدير العمل شفقة عليه في أثناء حمله إلى المشفى، وبعد انقضاء أيام العزاء، اصطحب جارهم طفله الصغير، ليشتري له لعبة وبعض الثياب.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.