فرانسيسكا أغيري: أحيا من جديد

30 نوفمبر 2018
الشاعرة
+ الخط -
كتبت فرانسيسكا أغيري في إحدى قصائدها الأخيرة أن بيتَها "موسوعة قديمة" مزّق منها شخصٌ ما بعضَ الأوراق. وُلدت الشاعرة الإسبانية في أليكانتي عام 1930، وعاشت في مدريد في حي شامبيري في ذلك البيت الذي لم تنتقل منه منذ أن كانت في العاشرة من عمرها، وهي الآن تبلغ 88 عاماً.

وفي هذا البيت استقبلت، الثلاثاء، 13 من الشهر الجاري، المكالمة التي أعلنت عن تتويجها بـ"الجائزة الوطنية للآداب" عن مجموع أعمالها، وكانت دار النشر، "كلامبور"، قد أصدرتها في كانون الثاني/ يناير الماضي تحت عنوان "بحثٌ عامٌّ".

الأعمال تعطي فكرة عن الشخصية الرصينة للشاعرة التي تتدافع صور الذكريات في ذهنها، بينما تستقبل المكالمات الهاتفية للمهنئين وللصحافيين الذين يريدون أن يستمعوا إلى تعليقاتها على فوزها بإحدى أهم الجوائز في إسبانيا، إذ لم ينل "الجائزة الوطنية للآداب" شاعر منذ عام 2005 وكان قد نالها حينئذ الشاعر الإسباني خوسيه مانويل كاباييرو بونالد (1926).

وَصفت لجنة التحكيم التي منحت الجائزة لـ أغيرِّي بأنها هي "الأكثر تماهياً مع شعر أنطونيو ماشادو من الجيل الخمسيني الذي تنتمي إليه"، لكن على ما يبدو أن الشاعرة لا تعبأ كثيراً بالأحكام النقدية وبالتصنيفات، هي ببساطة تهتمّ بكتابة الشعر ولا ترغب في أن تكون طرفاً في أيِّ نادٍ أو جماعة.

لا تحسُّ أغيري أنها بحصولها على جائزة الآداب الإسبانية قد تم إنصافها ولا إعادة الاعتبار لها كشاعرة في مساواة مع شعراء جيلها، لا سيما وأنها صوت شعري نسائي ضمن كوكبة من الشعراء الذكور الذين حصدوا الكثير من الجوائز، ومع ذلك لم تشعر بأنها مهمّشة أو مهملة، على فرادة صوتها الشعري وتميُّزها ضمن هذا الجيل الخمسيني، الذي كانت هي وزوجها أيضا من المنتمين إليه.

لكن ابنة أغيرِّي، غوادالوبي غراندي، وهي شاعرة أيضاً، ترى أن منح الجائزة لوالدتها سيكون "بمثابة حافز للمطالبة بميراث جميع تلك الأصوات النسائية التي هُمّشت لكونهن نساء ثم لأنهن منفيات".

تتذكر الشاعرة الإسبانية أغيري صوراً تستعيدها مراراً عن والدها الشرطي الجمهوري والفنان الإسباني وعن عبور الأسرة سنة 1939 الحدود الفرنسية، فارين من عنف الحرب التي أعلنها الجنرال فرانكو على الجمهوريين، وعن عبور أنطونيو ماشادو الحدود الفرنسية أيضاً. كتبت: "كنا نقرأ شعره، كنا مجانين". تتحدث الشاعرة هنا بصيغة الجمع وهي تشير إلى صورة زوجها على الجدار، فيليكس غراندي، الذي توفي سنة 2014.

تقول الشاعرة إنها ثمرة التربية والعناية التي قدمتها أمها لها ولشقيقتيها بعد أن تم إعدام الأب في سجن بورليير في 1942، وكتبت عنه تقول: "ظن أنه من المحتمل جداً أن يُقتل على يد الألمان في فرنسا بدل فرانكو في إسبانيا. عانينا كثيراً من الجوع وعُدنا بعد عشرة أشهر. وهنا كنَّا الحُمْر الملاعين". تضيف: "صِرْتُ راشدة في سن 12... وهذا الحدث طبع وإلى الأبد حياتي وشعري (...) رسختْ أمُّنا في أذهاننا أنَّنا يجبُ أن نعيشَ دونما أحقادٍ ولكن بذاكرة جلية وواضحة... وأنا أكتب تحديداً عما عايشته خلال حياتي".

نشرت أغيرِّي 11 مجموعة شعرية وقد بدأت النشرَ متأخرة جداً، فقد صدرت مجموعتها الأولى "إيثاكا" عام 1971، ونالت عنها "جائزة ليوبولدو بانيرو للشعر"، وهي في عمر الـ41، وقد تميزت تجربتها الشعرية ومنذ البداية بحضور الملمح السيري الذاتي في ما تكتبه، وهو ما لا تنفيه بل تؤكّده قائلة: "في شعري أتحدثُ إلى نفسي".

واصلت الشاعرة مسيرتها دون قلق من الأجواء التاريخية التي لم تكن مسعفة في إيصال الصوت الشعري النسائيّ، كما لم تكن ملائمة لاستعادة الذاكرة المأساوية لتاريخ إسبانيا، كانت تمضي غير عابئة بالعوائق التي تعترض سبيلها.

تقول لذاتها: "أنت تكتبين حتى لا تطلقي الصرخات وحتى لا تصيري مجنونة. الشعرُ يخلقُ السكينة. وهو خير من يُساعدكِ. العالمُ غيرُ مُنصفٍ ولكنَّ اللغة بريئة. وسلطة النساء في أن تتاح لهن الفرصة ليقُلنَ لا. ولهذا تعتَبَر التربية والاستقلال مُهمَّين جداً. وبعد ما زال يتعين القيام بعملٍ هائلٍ لأنَّ هوة اللامساواة ما تزال شاسعة بين الرِّجال والنِّساء، وبين الأغنياء والفقراء".

في عام 2011، حصلت أغيرّي على "جائزة الشعر الوطني" عن مجموعتها "تاريخ تشريح" وردّت حينها على ذلك الإعلان متسائلة إن لم يكن الناطق باسم لجنة تحكيم الجائزة قد أخطأ في اسم الفائز. من أعمال أغيرّي الشعرية: "الدّرجات الثلاثمائة" (1977)، و"الموسيقى الأخرى" (1978)، و"بحث عام" (1996)، و"رقصة اللاطمأنينة" (1999)، و"الجرح العبثي" (2006) و"أحاديث مع حيواني المرافق" (2012).
هنا ترجمتنا لبعض قصائد الشاعرة.

لم يعُدْ بإمكانكمْ شيء

لم يعُدْ بإمكانكمْ شيء،
لأنّ القوة لم تكن فيكم
بل كانتْ في ضعفي.
لن تنالوا شيئاً
إن تخلّيتم عنّي، لأنَّ الفراغَ لم يكن في غيابكم
لكن في حاجتي للرفقة
عندما تنادونني
سيكون قلبي في متناول أيديكم، كما الحال دوماً،
الآن
العالمُ قدْ تَمَّ تأثيثُه
بحساسيةِ الحدِّ الأدنى
مع القابلية الناعمة للممكن.
وكل شيء وطنٌ شاسعٌ وطيِّعٌ،
أبجدية غامضة
بها أُنادي الأسماءَ،
أعيدُ خلقَ الكونِ ثانيةً وأحياه من جديد.
■ ■ ■


فلامنكو

مِنَ الأرض،
تلك الموسيقى تنبعثُ من الأرض،
تأتي مِنَ الحملات، مِنَ الهجماتِ، منَ الدَّهْسِ المُعْتِم
لشرايينِ الكَوكبِ.
تأتي مِنْ غَلبَة النار،
مِنَ اللغةِ المُلتبسَة للعُرُوق،
من حُزنِ المعادن،
تلكَ الموسيقى عمياءُ مثل الجذور
وهي عنيدةٌ مثل الأشتال.
طعمها مثل الترابِ، مثل فمِ جُثَّةٍ،
تأتي من الأرضِ وهي من الأرض،
تُضاعِفُ الجيولوجيا،
تلك الموسيقى بُنِّيَّةٌ مثل اللّحاء،
كثيفَة مثل الماس،
لا تُملي الرَّأيَ، بلْ تُجلي فقط
اليَقينَ الشَّرِهَ لِمَا هو حَيٌّ،
الدُّوَّار الذي ينتقلُ من الطبقةِ السُّفلى
إلى الفاجعة التي تصرخ.
تلك الموسيقى تحكي عن الثقوب
التي يتدفق منها الأسلاف،
تلك الموسيقى هي كل تلك الثقوبِ.
هُوَّة صمَّاءُ تطالبُ
بالخلوة الأولى، بالبكاء الأول
لليلةِ الأولى.
■ ■ ■


المَالِكُون

ولا حَتَّى الظلُّ المُلتبِسُ للآتي
الذي كانَ يُفسِدَ طفولتنا المثقلة.
لأننا لا نمتلكُ أيَّ شيْءٍ،
ولا حتَّى الألم ذاتَهُ
الذي نظرنا إليه بدهشةٍ مرّات عديدةً.
لأنه، بلا ريبٍ، ليس لنا،
وبالفعل، أن نحلمَ في يأسٍ
أن كل شيء يوجد لدينا على مرمى من يدنا،
هذه اليد العنيدة التي تُسَمِّينَا
بما هو أكثر صرامة من لقبِنَا.
نمتلكُ أن نشتهي كل شيء: يا للحزن.
نمتلكُ الخوفَ والغبارَ والدُّخانَ والرِّيحَ.
■ ■ ■

قطع نقدية من الرعب

تكتب أغيري بحبر الذاكرة، ما زال شِعرها يخرج من أتون الألم الذي عاشته طفلة ثم ما لقيته مع عائلتها إبان الحرب الأهلية، التي وصفتها: "تلك الفترة المجنونة كانت تتقاضى أجرها منا بقطع نقدية من الرعب".

عملت فترة طويلة سكرتيرة للشاعر لويس روزاليس الذي أثر فيها، كما ذكرت أكثر من مرة تأثرها الكبير بكفافيس، تقول: "العثور على هذا الشاعر هو السبب في نضج شعري وتشكيل وعي مختلف بالكتابة لدي".

المساهمون