فخ اسمه اليوم العالمي للغة العربية

16 ديسمبر 2019
(غرافيتي لـ إل سيد في باريس، باسكال لو سيغروتان)
+ الخط -

بمناسبة اليوم العالمي للضاد، يُقيم "معهد العالم العربي" في باريس احتفاءً بها طيلة الفترة الممتدة بين 13 و18 ديسمبر/كانون الأول الجاري، من خلال سلسلةٍ من الأنشطة الثقافية واللغوية المرتبطة بها. ففي مَبناه الجميل، المُطل على نَهر السّين، يقترح المعهد فعالياتٍ متنوّعة تشمل سائر دوائر الثقافة التي يربطها المخيال الفرنسي بهذا اللسان ويَجعلها شاهداً عليه. ومن بين ذلك قراءاتٌ لبعض النصوص القصيرة، أدبية وغير أدبية، يتلوها طلبةُ المعهد الذين يدرسون هذه اللغة بين جَنباته، علماً أنَّ هذه المؤسّسة الفرنسية تقدّم دروساً مسائية مفتوحةً للجميع وفق منهج "أهداف" الذي أُلّف خصيصاً لهذا المَعلم.

ومن ذلك أيضا عرض شريط سينمائي بعنوان "داريا: مكتبة تحت القصف" للمخرجة الفرنسية دلفين منوي، يعقبه لقاءٌ أدبي يُعقد، في مَكتبة المعهد، مع الروائي المصري خالد الخُميسي، صاحب روايتَيْ "تاكسي" (2009) و"سفينة نوح" (2012). وتتضمّن الجلسةُ "قراءات" من أداء المُمثّلَيْن ريمون حصني وفريدة رهواج. ويؤدي الفنان نديم بَحسون لوحاتٍ راقصة، تُحاكي تَعاريج الخطّ العَربي وتعكس، عبر الاهتزاز الجسدي، تموُّجاتِه.

وكما هو متوقّع، يتضمن الاحتفاء حصَّة اكتشافٍ للخطوط العربية ورسمها بالدَّواة والقَلم، ينشطها الخطّاط صالح، إلى جانب هامشٍ للدردشة باللسانيْن الفرنسي والعربي، يُجريها المتعلّمون المبتدئون ضمن حوارات قصيرة. ولا تغيب شخصية الحكواتي الذي سيروي على المسامع قصصاً من الذاكرة الشفوية عن الغول والجازية الهلالية، ذات الشعر المنسدل.

ودونَ القيام بامتحان نَوايا، لا يسع المتابعَ لهذه الفعاليات، بالرغم من ضرورتها، إلا أن يَتعجّب من مدى سيطرة الرؤى النمطية، ذات المرجعية الاستشراقية، على المديرين لهذه الأنشطة. فهم لا يزالون ينظرون إلى الضاد نظرة المأخوذ بسحرها، كما كان يُنظر إليها رحّالة القرن التاسعَ عشرَ. والأعجب من ذلك، نزعتُهم التي تقرن العربية بالرقص (الشرقي) وحركات الجسد، في إشارة واضحة إلى هَوَس تحرير الجسد والنقد الضمني لمكانته في التراث العربي.

ومن جهة أخرى، نلاحظ هيمنة تصوُّرٍ آخَرَ يربطُ الضاد بالبعد الشفوي، فيتخيّلها "موسيقى ساحرة" تنبعث من الأغوار، كأنها تراتيل شعوب بدائيّة أو أصداء هاماتٍ تتناهى إلى أسماع المُستَكشفين. ولنا أن نتساءل: هل ثمّة لغةٌ واحدة، بين لغات العالم الستة آلافٍ، لا تخلو من بُعدٍ صوتي ولا تتوفّر على مكوّن موسيقي؟ وهو ما يحيلنا إلى سؤالٍ أعمق عن أسباب استمرار هذه النظرة، التي تجاوزها الزمن، وعوامل تأبيدها، كأنْ لم يَحصل في تاريخ الضاد أي تطوّر وكما لو أنها لم تُصاحب، كما صاحبت دائماً، وتائر حياة العربي في التاريخ، على تعقُّد تجاربه وكثرتها.

ولا تكاد تخفى إرادة هؤلاء القائمين قطعَ العربية، بشكل كامل ومقصودٍ، عن جذورها الدينية ضمن حَربٍ ماكرة، لا تقول اسمَها، تُخاض، باسم العلمانية الذي يُرفع في كل مناسبةٍ، ضد أي تعبير روحي أو قدسيّ عنها، مع أنَّ تاريخ الضاد لم ينفصل لحظةً عن التراث الإسلامي، ولم تتشكّل ثرواتُ مخزونها المعجمي والمجازي إلا بتفاعلها مع القرآن وما دار في فَلَكه من خطابات، ولم يَعُقْها عن الاغتناء والتنامي في النسيج العالمي، بل لعلّه هو الذي أهَّلها لهذا الحضور الكوني.

ولا تزال هذه الاحتفائيات، رغم أهميتها، ترزح تحت وطأة الصور النمطية التي تجعل من لغتنا "كائناً سحرياً" يتراقص كجنّي خارجَ التاريخ، لا يطاوله التطوّر، ولا يعتريه ما يعتري سائر المؤسّسات الاجتماعية من التغييرات، هذا عدا عن ربطها، بشكل هَوَسي بالجَسَد ومغامرات "ألف ليلة وليلة"، كأن لم يُنجب النثر العربي غيرها من النصوص، وكأن لم تظهر بعدُ أجناس الرواية المعاصرة! كما تربط هذه الرؤية اللاواعية للضاد التي تحكم جزءاً من المخيال الغربي لها، بينها وبين كل ما هو خارجَ عجلة الاقتصاد والإدارة والسياسة والتصرّف، قاطعاً أوصالَها عن هذه الحقول التي عبَّرت عن أشيائها ومفاهيمها ماضياً، وتعبر عنها في عصرنا الراهن، بأوضح عبارة وأدق تركيب.

صار الاحتفال باليوم العالمي للضاد سلعة استهلاكٍ، تُوظّف لأغراض سياسويّة ساذجة، تَستغلها بعض الأطراف في معاركها ضد التراث الديني والثقافة الجادَّة ونصوص العقلانية العربية. وتحوَّل إلى مثابة حجٍّ سنويٍّ بطقوسه المكرورة، لا هدف له سوى إبعاد الريبة عن الذات والإيهام باحترام لغات "الآخر" ضمن نسيج الجمهورية. وقد يسقط في فخ الاحتفال مَن يَزال يتخيَّل الضاد لغةَ خُطوط وخُصور.


* أستاذ جامعي تونسي مقيم في فرنسا

المساهمون