وتتباين القراءات لنتيجة هذه الجهود الجزائرية. فبعد لقاءات مع الطرف المصري، وزيارتين لوزير الخارجية سامح شكري للجزائر في الأسبوعين الماضيين، ثم عقد مؤتمر برلين، استخلص دبلوماسيون جزائريون تحدثت إليهم "العربي الجديد"، أن "مصر تميل الآن أكثر إلى الحل السياسي، بعد أن تورطت في الموضوع العسكري مع حفتر، وأنها بدأت تقتنع بأن الصدام العسكري سيُثقل كاهلها، لكونها دولة جوار، عكس الإمارات والسعودية". لكن في المقابل، أكدت مصادر دبلوماسية في ديوان الخارجية المصرية، أن موقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ما زال ثابتاً إزاء ليبيا بالدعم المستمر لحفتر، ومعارضة استمرار حكومة الوفاق بمكوناتها الحالية في حكم طرابلس، سواء تحقق ذلك بالحرب أو بالأدوات الدبلوماسية، فضلاً عن ضرورة إلغاء اتفاقية التفاهم التي وقّعها رئيس حكومة الوفاق فائز السراج مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
تحييد القاهرة
وضعت الجزائر في الفترة الأخيرة نصب أعينها تحييد الموقف المصري تجاه ليبيا وعزله عن تأثيرات دول أخرى، أو ما وصفه دبلوماسيون جزائريون بـ"إنقاذ مصر من الورطة الليبية، ورمي سترة نجاة لها من هذه الأزمة". وبدا المسعى الجزائري واضحاً في اجتماع الخميس الماضي لدول الجوار، إذ التزمت القاهرة مع الجزائر ودول الجوار الليبي تثبيت وقف إطلاق النار ودعم الحل السياسي في ليبيا، خصوصاً بعد نجاح الجزائر في إعادة إدخال دول كمالي والنيجر وتونس والسودان وتشاد، ضمن معادلة الحل السياسي في ليبيا، ودفعها إلى الاعتراض بقوة على كل الدول التي تساهم في إشعال فتيل الأزمة من جهة، وتفعيل آلية دول الجوار كإطار إقليمي ويعزز دور هذه الدول في حل الأزمة، من جهة ثانية.
وفي هذا المنحى سعت الجزائر إلى استبعاد أي تأثيرات دولية في موقف دول الجوار الليبي واجتماعها الذي عُقد الخميس، بما فيها الطرف الألماني الذي تشير معلومات خاصة حصلت عليها "العربي الجديد" إلى أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، حضر إلى الجزائر من دون دعوة، وفرض نفسه على الاجتماع بحجة إبلاغ دول الجوار بمخرجات مؤتمر برلين، فردّت الجزائر على تصرف الوزير الألماني بعدم استقباله رسمياً في المطار، وعدم استقباله من قِبل الرئيس عبد المجيد تبون ضمن وفد الوزراء المشاركين في الاجتماع.
وبنت الجزائر جهودها للضغط على القاهرة ومحاصرة تحركها في المشهد الليبي إقليمياً، على تقاريرها الخاصة وعلى معلومات موثقة حصلت عليها سابقاً من أطراف شريكة في مسار برلين ومتقاربة في مواقفها مع الجزائر، تؤكد ازدواجية الموقف المصري بين التزامات سياسية يعلنها المسؤولون المصريون في الاجتماعات الإقليمية والثنائية تتضمن الحرص على إنجاح مسار الحل السياسي والتهدئة، وبين استمرار دعم حفتر عسكرياً ولوجستياً، والتخطيط لعملياته العسكرية ضد طرابلس.
في العلن والأوساط الدولية، اعتاد المسؤولون المصريون، وعلى رأسهم السيسي، الحديث عن مسؤولية المجتمع الدولي عن مواجهة انتهاكات قرارات مجلس الأمن وتقديم الدعم السياسي والأيديولوجي واللوجيستي من سلاح وعتاد لتنظيمات إرهابية، وتكريس فوضى المليشيات، وحرمان الشعب الليبي السيطرة على مقدراته وموارده، إضافة إلى الحديث عن ضرورة عمل دول جوار ليبيا، وفي إطار الاتحاد الأفريقي، ومع الأمم المتحدة، لدفع جهود التسوية في ليبيا، انطلاقاً من الاتفاق السياسي الليبي، ومواجهة التدخّلات الخارجية المرفوضة شكلاً وموضوعاً في ليبيا، وإنهاء حالة الانسداد السياسي وتغليب الأهواء الشخصية والضيقة على المصالح الوطنية الليبية. لكن على صعيد آخر، أكد السيسي في لقاءات سياسية عديدة خلال استقباله المتكرر لحفتر ورئيس البرلمان الموالي له عقيلة صالح، ثبات موقف مصر "الذي لم ولن يتغير" في دعم ما تصفه مصر بـ"الجيش الوطني الليبي" (المليشيات) في "حملته للقضاء على العناصر والتنظيمات الإرهابية".
وتميل التقديرات في الجزائر إلى أن الموقف المصري "كان حبيس معادلة سياسية خاصة مبنية على أن إخفاق حفتر يجعل القاهرة رهينة لترتيبات غير مضمونة في ليبيا، وربما قيام حكومات مقربة أو تشارك فيها تيارات سياسية لا تتوافق معها القاهرة". وتؤخذ في السياق نفسه حسابات مصر الاقتصادية، إذ "تعتقد السلطة في مصر أن تحكّم الطرف الموالي لها في ليبيا في المرحلة المقبلة يمثل جزءاً من الحلول لمشاكل البطالة والعمالة وسوق المنتجات المصرية".
وفي ظل هذه المعطيات، تحاول الجزائر استغلال جملة من التطورات السياسية في المنطقة، بما فيها التدخّل التركي، لفرض واقع إقليمي جديد على القاهرة، بما يرتبط بالأزمة الليبية، وإخراج القاهرة من "محور الحرب" إلى "الشراكة في محور السلم"، ودعم مسعى إقليمي تشارك فيه دول الطوق الليبي، كتونس ومالي والنيجر والسودان، يساعد على إنجاز حوار ليبي-ليبي. وتذهب تقديرات الموقف الدبلوماسي في الجزائر إلى أن تمسك أنقرة ودعمها لدور محوري للجزائر في الأزمة الليبية، مقابل ومكافئ للدور المصري، جاء في توقيت مناسب. فـ"القاهرة التي تعتبر أن أنقرة تمثّل مشكلة جدية بالنسبة إليها، وتتصرف على هذا الأساس، مدفوعة من أبوظبي والرياض لمنع أي وجود تركي في ليبيا، ترى الآن أن الجزائر هي الوحيدة التي يمكن أن تحل مشكلة التدخل التركي وتقنع الأتراك بعدم التدخل آنياً".
لا تراجع مصرياً
من جهتها، أوضحت المصادر المصرية أن اشتراك القاهرة في اجتماع الجزائر الأخير كان ضرورياً لتأكيد حضورها الفاعل في كل المنتديات التي تعقد بشأن الملف الليبي، وهو أيضاً كان الدافع لحضور السيسي بنفسه في مؤتمر برلين بعد أيام من التردد والتفكير في انتداب وزير الخارجية سامح شكري فقط. وفي هذا الإطار، اعتبرت المصادر أن حضور السيسي بنفسه، وعلى الرغم من عدم توصل المؤتمر إلى حلول نهائية للأزمة الليبية، وضعه على خريطة المفاوضات التي تغيّرت بشكل حاد بعد التفاهم الروسي التركي، ليس فقط كرئيس للدولة الأقرب لليبيا، بل أيضاً كممثل سياسي لمحور الدعم العربي لحفتر، وخصوصاً أمام الأطراف الأوروبية، التي تعي جيداً أن قرار هذا المحور يصنع بشكل أساسي بين السيسي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.
وذكرت المصادر المصرية أن الرؤية الجزائرية للحل في ليبيا "منفصلة عن بعض ملامح الواقع السياسي"، مشيرة إلى محاولة مصرية سابقة فاشلة لتبنّي حلول سياسية في ليبيا، تلبي مصالحها بالتأكيد، عبر آلية دول الجوار والاتحاد الأفريقي، مرجعة هذا الفشل إلى تواري مواقف عدد من دول الجوار وراء القرار الفرنسي تحديداً، وانخراط باريس في العامين الماضيين في البحث عن حلول قصيرة الأمد، لا تورطها في الحرب، وتضمن في الوقت نفسه مصالحها الاقتصادية، وذلك في إطار التنافس مع إيطاليا.
وشددت المصادر على أن الهزيمة الاستراتيجية لمساعي السيسي لفرض تفوّق حفتر على حكومة الوفاق بالقوة قبل مؤتمر برلين، بهدف خلق مكانة مميزة له في خريطة المستقبل الليبية، لم تدفع السيسي حتى الآن إلى التراجع عن دعم حفتر، على الرغم من الخلافات بين الطرفين حول بعض التحركات الميدانية والتصرفات السياسية، ذلك لأن السيسي يعتقد أنه لا بديل من الاعتماد على مليشيا واحدة وإضفاء وصف "الجيش الموحد" عليها، لحماية المصالح المصرية في الأمن والاستقرار ومحاربة التيار الإسلامي في ليبيا، وهو أمر تتوافق معه كل من فرنسا وروسيا.
وأشارت المصادر إلى أن عدم تضمين بيان مؤتمر برلين بعض المقترحات المصرية، مثل ضرورة استبعاد كل التيارات الإسلامية (الموصوفة بالإرهابية) المساندة لحكومة الوفاق من العملية السياسية التي ينوي المؤتمر إطلاقها، بهدف إنشاء مجلس رئاسي قوي وتشكيل حكومة ليبية موحدة قوية، مدعومة من برلمان موحد، واستثناء ما وُصف بـ"محاربة الإرهاب" من وقف إطلاق النار، لم ينل من موقف مصر والإمارات المتمسك بهذه المحددات.
وكان بيان برلين قد تضمّن بنداً أكد "دعم إنشاء جيش وطني ليبي موحد وشرطة وقوات أمن موحدة تحت إدارة السلطات المدنية المركزية على أساس عملية القاهرة التفاوضية والوثائق المنبثقة منها" بعد تعديلات على المقترح المصري الذي نشرته "العربي الجديد" قبيل المؤتمر "بالبناء على مليشيا حفتر، باعتبارها الجيش الوطني كنواة للقوات المسلحة الموحدة، وسيعرض دعم مصر اللوجيستي والعملياتي لإنشاء شرطة موحدة، مقابل رفع كل صور الحماية عن المليشيات غير القانونية، مع الإشارة إلى المجهودات التي سبق أن بُذلت لتوحيد السلاح الليبي برعاية مصرية بين عامي 2014 و2016".
واعتبرت المصادر أن السيسي يتعامل مع الأزمة الليبية بصورة مراوغة. فهو بالتأكيد، كما أردوغان وباقي الزعماء المعنيين، لا يرغب في خوض حرب على التراب الليبي، لكن في الوقت نفسه لا يرى بديلاً من تلبية محدداته، مع الإمارات. كذلك، ما زال يرى أن حفتر هو الشخصية الوحيدة المؤهلة لاستخدامها في ليبيا، وهي نقطة كانت قد تحولت إلى مسألة جدلية في وقت سابق مع محمد بن زايد.
فرض لاعب ثالث؟
وبرأي أستاذ العلوم السياسية في جامعة تيبازة قرب العاصمة الجزائرية، زهير بوعمامة، المتابع لتطورات الموقف المصري من الأزمة الليبية، فإنه "بالغ الأهمية"، لافتاً إلى أن "نجاح الجزائر في تعديل الموقف المصري سيمثّل نصف الحل، على أساس أنه يمكن أن يغيّر الكثير من المواقف والمعادلات داخل مربع الأزمة الليبية". وأضاف بوعمامة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "مصر أمام التزامات سياسية عبّرت عنها في أكثر من اجتماع إقليمي وثنائي، وهذا يفرض عليها الوفاء بالتزامات كهذه للحل السياسي، لأن الحرب في ليبيا ليست في مصلحتها، كما ليست في مصلحة أي طرف".
وكشفت معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" من مصادر جزائرية مسؤولة تتابع الملف الليبي، أنه إضافة إلى مسعى تحييد الموقف المصري والحد من دوره السلبي في الأزمة، فإن الجزائر وتونس تتوافقان في الرغبة في فرض طرف ثالث بالمعادلة الليبية، وهو القبائل التي تمثّل العمق الشعبي والمجتمعي، ويمكن أن تتحوّل إلى طرف مؤثر إذا نجح دفعها إلى تشكيل موقف وتصميم دور لها في مسارات الحل. وبحسب المصادر، فإن المجموعات السياسية التي شكّلتها في البداية البعثة الأممية في ليبيا بقيادة غسان سلامة، لم تكن هي التي تمثل الليبيين، إذ أُقصي الكثير من القبائل، وهذا أظهر لاحقاً وجود ثغرة واضحة وجلية في التمثيل القبلي والمجتمعي لليبيين في مسارات الحل السياسي، بحسب هذه المصادر.
وتترجم هذه المعلومات على الأرض من خلال تصريحات وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده عقب اجتماع وزراء خارجية دول جوار ليبيا، إذ أعلن أن هناك أطرافاً أخرى في ليبيا معنية بالأزمة وبمساعي السلام ويجب أن يكون لها دور في حل الأزمة وتشملها المساعي والمسارات. وذكر الوزير القبائل في مناطق الجنوب والتبو ومنطقة غات وغيرها، وهي القبائل التي تدعمها الجزائر من خلال شحنات مساعدات إنسانية توجّه إلى مناطق وجود هذه القبائل، التي يتوخى دفعها إلى لعب دور رئيسي يساعد أولاً في إيقاف الحرب وتثبيت السلام، بالإضافة إلى مبادرة الرئيس التونسي قيس سعيّد الأخيرة من خلال "إعلان تونس للقبائل الليبية" بعد استقباله لوفد يمثلها.