برزت دراسات الخطاب discourse في المقاربات اللسانية في النصف الأول من القرن المنصرم، ومعها لمعت اسماء بيسونس، وزيليج هاريس، وبول ريكور، وأصحاب الاتجاه النقدي الثقافي وخطاب ما بعد الكولونيالية؛ كمشيل فوكو، وإدوارد سعيد، وهومي بابا، وآنيا لومبا. ثم ما لبث مفهوم "الخطاب" ان اكتسى حمولة معقَّدة من المعارف والرؤى حتى غدا مفهوماً مركباً، مخاتلاً، يتفلَّت على مألوف التحديد والتعيين، كما هي اللغة مرواغة، مخاتلة، تختزن قدرة على التمويه، والتزيين، وتغيير آراء المتلقين؛ فتمتلك المعنى وتحتكر سلطة الخطاب طوعاً أو كرهاً. على ذلك تتبدى العلاقة بين اللغة والخطاب علاقة التأثر والتأثر المتبادلَين، وتتراصف الحدود بين تجاذبات السلطة والهيمنة بين أقنومَي الخطاب اللغة، فيسعى كل منهما إلى صناعة وعي بديل، وممارسة إمكانياته الجوانيّة في التوجيه وتعديل القناعات.
وفي سياق هذا الانشغال يقيم توين فان دايك، احد اشهر باحثي دراسات الخطاب ومفكريه في عالم اليوم، مقارباته البحثية حول الخطاب والسلطة، ناقدا إساءة استعمال السلطة كما تتجلى في الخطاب، ومدركا أن المعرفة التي لا تحركها غايات نبيلة هي معرفة ناقصة، فنلحظه في مقالاته العشر التي أثّثت كتابه هذا يصدر عن وعي بأن الخطاب يتعالق مع السلطة، ولا مندوحة من نقاش المفهومين بمنأى عن الهيمنة والسيطرة، لأن الخطاب طريقة نظر إلى العالم، تنظيماً أو تمثيلاً للتجربة - الأيديولوجيا في المعنى الطبيعي. فمن يملك الخطاب ويوجهه يخلق المعنى ويبتدع الحقيقة ولو كانت ملتبسة غير شفافة، وفان دايك يشاكل فوكو في مفهومه للخطاب بأنه ينطوي على منطق داخلي وارتباطات مؤسسية، فالخطاب ليس ناتجاً بالضرورة من ذات فردية يعبر عنها أو يحمل معناها أو يميل إليها، بل قد يكون خطاب مؤسسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما. والخطاب أيضاً عملية عقلية منظمة مُتَّسِقة منطقياً، أو عملية مركبة من سلسلة العمليات العقلية الجزئية أو تعبير عن الفكر بواسطة سلسلة من الألفاظ والقضايا التي يرتبط بعضها ببعض، ولم يعد الخطاب طريقة للتعبير أو حديثاً متساوقاً، أو مجموعة عمليات فكرية مترابطة، أو تحليلاً لذات واعية تتأمل وتعرف وتعبِّر فحسب، وإنما أصبح إمكاناً وشرط وجود ونظاماً، وأصبح حقلاً تتمفصل فيه الذوات، ومجموعة علاقات تجد فيها مرتكزاً له.
عمل فان دايك على تفكيك الخطاب في مقالاته العشر من خلال الاستراتيجيات التي اتكأت عليها هذه الخطابات، وإن تنوَّعت هذه الاستراتيجيات فقد تكوكبت حول بؤرة مركزية هي أن الخطاب لا يُحلَّل بوصفه لفظاً مستقلاً بذاته فحسب، بل بوصفه تفاعلاً موقفياً وممارسة اجتماعية أيضاً، وأن السيطرة على الخطاب العام هي سيطرة على العقل العام. فمقالاته: الخطاب والهيمنة، وبنى الخطاب وبنى السلطة، وتحليل الخطاب النقدي، والخطاب والعنصرية، والخطاب وإنكار العنصرية، والخطاب السياسي والإدراك السياسي، والبلاغة الحربية للحليف الصغير، والخطاب والتلاعب، والسياق في الخطاب البرلماني، هذه المقالات مجتمعة ينظها خيط شفيف هو أن العلاقة بين الخطاب والسلطة علاقة بنيويّة، فينتمي توظيف اللغة والخطاب والتفاعل اللفظي والتواصل إلى المستوى الجزئي للنظام الاجتماعي في حين تنتنمي السلطة والهيمنة وعدم المساواة بين الفئات أو المجموعات الاجتماعية إلى المستوى الكلي للتحليل. ولا يقف فان دايك من القضايا التي عرضها موقف المحايد، بل ينخرط ويدافع عن مصالح الفئات المهمّشة والأقليات في المجتمع؛ فالحياد خيانة لقيم العلم ولدور المثقف الطليعي في الحياة. ولعل ما يميِّز كتاب الخطاب والسلطة أيضاً أنه ينحاز إلى عِلميّة منهجيّة صارمة، فيفيد من مناهج كثيرة مستندة إلى الملاحظة والتحليل والاستراتيجيات المتنوعة، ويوسع من مدارات بياناته ودراستها وتقويمها، ويختبر فرضياته؛ ليصل إلى نظرية معرفيّة شاملة في فهم الخطاب النقدي.
ولا يتوانى فان دايك عن أن يجهر بالقول في قضايا تكتنفها الحساسيّة في البيئة الغربية، فتراه يُعمِل مبضعه في نقد المركزية الغربية، ويسمها بأنها تُقدِّم النفس إيجاباً وتقدم الآخرين سلباً، فالخطابات المختارة في كتاب الخطاب والسلطة تفيض بهذه الاستراتيجيات المركزية في تجميل الذات وتحقير الآخر، لأنها تصدر عن عقلية تبريرية تتلاعب في الخطاب للوصول إلى مآربها في الهيمنة على عقول المتلقين والفئات المستهدفة من الخطاب، فيلجأ أصحاب الخطاب إلى خُدع وتكتيكات استراتيجية عبر بلاغة وحبْك لخطاب جدلي يتلاعب في الألفاظ ويجترح استدلالات مموَّهة، وغيرها من الآليات والإمكانات التي تختزلها هذه الخطابات؛ وصولاً إلى توجيه الحقيقة نحو مسرب محدد يتطلع إليه مُنتِج الخطاب.
وتكمن أهمية دراسات الخطاب في البيئة العلمية في أنها تعمل على إيجاد معرفة لا تنحاز إلى فئة دون أخرى، بل تعمل على تظهير العلاقات التي تنظم قوى المجتمع، فتنهض على ترسيم ميثاق يبسط العدالة والمساواة بين الأمم والشعوب، معرفة لا تقوم على أساس السيطرة والهيمنة بل قاعدتها التساكن الثقافي، والمساواة والعدالة، والأخذ بيد الأقليات والمضطهَدين والمهمَّشين؛ لأن هؤلاء بشر يستحقون الرعاية والرَّخاء.
(أكاديمي وكاتب أردني)
وفي سياق هذا الانشغال يقيم توين فان دايك، احد اشهر باحثي دراسات الخطاب ومفكريه في عالم اليوم، مقارباته البحثية حول الخطاب والسلطة، ناقدا إساءة استعمال السلطة كما تتجلى في الخطاب، ومدركا أن المعرفة التي لا تحركها غايات نبيلة هي معرفة ناقصة، فنلحظه في مقالاته العشر التي أثّثت كتابه هذا يصدر عن وعي بأن الخطاب يتعالق مع السلطة، ولا مندوحة من نقاش المفهومين بمنأى عن الهيمنة والسيطرة، لأن الخطاب طريقة نظر إلى العالم، تنظيماً أو تمثيلاً للتجربة - الأيديولوجيا في المعنى الطبيعي. فمن يملك الخطاب ويوجهه يخلق المعنى ويبتدع الحقيقة ولو كانت ملتبسة غير شفافة، وفان دايك يشاكل فوكو في مفهومه للخطاب بأنه ينطوي على منطق داخلي وارتباطات مؤسسية، فالخطاب ليس ناتجاً بالضرورة من ذات فردية يعبر عنها أو يحمل معناها أو يميل إليها، بل قد يكون خطاب مؤسسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما. والخطاب أيضاً عملية عقلية منظمة مُتَّسِقة منطقياً، أو عملية مركبة من سلسلة العمليات العقلية الجزئية أو تعبير عن الفكر بواسطة سلسلة من الألفاظ والقضايا التي يرتبط بعضها ببعض، ولم يعد الخطاب طريقة للتعبير أو حديثاً متساوقاً، أو مجموعة عمليات فكرية مترابطة، أو تحليلاً لذات واعية تتأمل وتعرف وتعبِّر فحسب، وإنما أصبح إمكاناً وشرط وجود ونظاماً، وأصبح حقلاً تتمفصل فيه الذوات، ومجموعة علاقات تجد فيها مرتكزاً له.
عمل فان دايك على تفكيك الخطاب في مقالاته العشر من خلال الاستراتيجيات التي اتكأت عليها هذه الخطابات، وإن تنوَّعت هذه الاستراتيجيات فقد تكوكبت حول بؤرة مركزية هي أن الخطاب لا يُحلَّل بوصفه لفظاً مستقلاً بذاته فحسب، بل بوصفه تفاعلاً موقفياً وممارسة اجتماعية أيضاً، وأن السيطرة على الخطاب العام هي سيطرة على العقل العام. فمقالاته: الخطاب والهيمنة، وبنى الخطاب وبنى السلطة، وتحليل الخطاب النقدي، والخطاب والعنصرية، والخطاب وإنكار العنصرية، والخطاب السياسي والإدراك السياسي، والبلاغة الحربية للحليف الصغير، والخطاب والتلاعب، والسياق في الخطاب البرلماني، هذه المقالات مجتمعة ينظها خيط شفيف هو أن العلاقة بين الخطاب والسلطة علاقة بنيويّة، فينتمي توظيف اللغة والخطاب والتفاعل اللفظي والتواصل إلى المستوى الجزئي للنظام الاجتماعي في حين تنتنمي السلطة والهيمنة وعدم المساواة بين الفئات أو المجموعات الاجتماعية إلى المستوى الكلي للتحليل. ولا يقف فان دايك من القضايا التي عرضها موقف المحايد، بل ينخرط ويدافع عن مصالح الفئات المهمّشة والأقليات في المجتمع؛ فالحياد خيانة لقيم العلم ولدور المثقف الطليعي في الحياة. ولعل ما يميِّز كتاب الخطاب والسلطة أيضاً أنه ينحاز إلى عِلميّة منهجيّة صارمة، فيفيد من مناهج كثيرة مستندة إلى الملاحظة والتحليل والاستراتيجيات المتنوعة، ويوسع من مدارات بياناته ودراستها وتقويمها، ويختبر فرضياته؛ ليصل إلى نظرية معرفيّة شاملة في فهم الخطاب النقدي.
ولا يتوانى فان دايك عن أن يجهر بالقول في قضايا تكتنفها الحساسيّة في البيئة الغربية، فتراه يُعمِل مبضعه في نقد المركزية الغربية، ويسمها بأنها تُقدِّم النفس إيجاباً وتقدم الآخرين سلباً، فالخطابات المختارة في كتاب الخطاب والسلطة تفيض بهذه الاستراتيجيات المركزية في تجميل الذات وتحقير الآخر، لأنها تصدر عن عقلية تبريرية تتلاعب في الخطاب للوصول إلى مآربها في الهيمنة على عقول المتلقين والفئات المستهدفة من الخطاب، فيلجأ أصحاب الخطاب إلى خُدع وتكتيكات استراتيجية عبر بلاغة وحبْك لخطاب جدلي يتلاعب في الألفاظ ويجترح استدلالات مموَّهة، وغيرها من الآليات والإمكانات التي تختزلها هذه الخطابات؛ وصولاً إلى توجيه الحقيقة نحو مسرب محدد يتطلع إليه مُنتِج الخطاب.
وتكمن أهمية دراسات الخطاب في البيئة العلمية في أنها تعمل على إيجاد معرفة لا تنحاز إلى فئة دون أخرى، بل تعمل على تظهير العلاقات التي تنظم قوى المجتمع، فتنهض على ترسيم ميثاق يبسط العدالة والمساواة بين الأمم والشعوب، معرفة لا تقوم على أساس السيطرة والهيمنة بل قاعدتها التساكن الثقافي، والمساواة والعدالة، والأخذ بيد الأقليات والمضطهَدين والمهمَّشين؛ لأن هؤلاء بشر يستحقون الرعاية والرَّخاء.
(أكاديمي وكاتب أردني)