فادي... أوسع من شهادة

31 يناير 2017
+ الخط -
كنت وددت أن أكون أحد المحتفلين بتخريج فادي قنبر من السجن، وهو يحمل درجة البكالوريوس في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، لكن أقداري شاءت أن أصفق له من بعيد، شأن كل من يتابعون "مباريات" النزيف الفلسطيني من وراء الشاشات العربية الكبرى.
آنذاك، رجّحت، أنا المحلل السياسي الفذ، والمختصّ بشؤون الأسرى والمعتقلين، أن يكون قنبر اكتفى بتقديم ما ترتّب عليه من ذمم النضال، وحصل، في المقابل، على حصته من فلسطين، كاملةً غير منقوصة.
وتوقعت أن يكون أول ما سيفعله هذا الخريج الجديد أن يلجأ إلى أمه، لتبحث له عن "عروس"، كونه حصل على "الشهادة" الجامعية، وصار في وسعه أن يدخل عالم الرجال وأرباب الأسر، من بابه الواسع؛ وخصوصًا أن شهادته مميزة، وتتيح لأمه أن تدخل بخيلاء إلى أي بيتٍ تختاره، مع كثيرٍ من طقوس التبجيل والتكريم، وما عليها إلا أن تؤشر على العروس المنشودة لفادي، وستجد المباركة فوريةً من دون تردّد، كيف لا وابنها يحوز شهادة "أسير" في سجون الاحتلال، دفع لقاءها كدًا وعرقًا واحتراقًا من جسده الذي ألهبته السياط، وأدمته القيود.
غير أن فادي قنبر غافل الجميع، ولم يكتف بـ"شهادةٍ" واحدة، بل امتطى شاحنةً، وقرّر أن يكمل دراسته، للحصول على "الشهادة" الكبرى التي تتيح له حيازة "عروسٍ" أكثر بهاء وجمالاً، تضاهي فلسطين حتى آخر عشبة فيها.
حقًا، لا أعلم حتى الآن، السبب الذي دفع فارس الشاحنة التي أطاحت رهط الجنود الصهاينة وأفزعتهم، فادي قنبر، إلى اختيار السجن قبل الشهادة، على الرغم من أنه كان في وسعه أن يختزل حصته من النضال بالسجن وحده، والذي يشفع له عن أي "تقصير"؛ غير أنه آثر أن يُتبعه بالشهادة، أو (أم التضحيات)، كما يقال.
لماذا آثر فادي أن يحشر في الزنزانة ثلاثين شهرًا، وهو يدرك معنى أن يصبح الجسد الفلسطيني مشروعًا لسياط الاحتلال وسجونه، قبل أن يقرّر امتطاء الشاحنة بعد خروجه من السجن، والإجهاز على جنود العدو؟
الحال أن لغز جيلٍ النضال الجديد من الفلسطينيين، ما يزال محيّرًا لي، منذ الشهيد بهاء عليان، الذي طلب من أمه أن تساعده بتزنير كم قميصه قبل عمليته الاستشهادية بساعات، وكأنه ذاهبٌ إلى موعد غرام مع حبيبته، وها هو قنبر، يفاقم حيرتي أكثر حول هذا الجيل الجديد، واختلاف نظرته إلى فلسطين عن الجيل الذي سبقه.
في الماضي، لم يدرك الفلسطينيون ثنائية الانتشار والاختزال في وطنهم، كما فهمها الجيل الجديد. كانت فلسطين بالنسبة لهم وطنًا من ترابٍ فحسب، ويكفي أن يعود المرء إلى هذا التراب، ولو تحت وطأة الاحتلال، ويحيا عليه ثم يدفن فيه، وهي نظرةٌ لم تختلف حتى عند جيل المناضلين منهم، بدليل أن أركان منظمة التحرير قبلوا العودة بهذه الشروط، ودخلوا فلسطين تحت حراب الاحتلال، وفي ظنهم أنهم "فاتحون"، وزيّنوا للشعب الفلسطيني أن القضية حسمت، ولم يعد هناك مسوّغ للنضال، ما دام "الرمز" عاد محاطاً بإكسسوارات الزعامة التي تختلف عن نظيرتها لدى أي زعيم آخر. وفي هذه الحالة، يصبح اختزال التحرير ممكنًا بشخوص الأركان والقيادات، وأما من تبقوا فلهم حرية "الانتشار" في أربع جهات الأرض، أو في خامسها إن شاءوا الموت غيظًا.
على الجانب الآخر، من جيل فادي قنبر، انعكست ثنائية الانتشار والاختزال، لتصبح فلسطين أوسع من عودةٍ، وأعلى من قامة الزعماء والأركان، وصار ثمّة إحساس أعمق بالأرض ومفرداتها. وعلى ذلك، لم يعد يكتفي المناضل بشهادة نضالٍ واحدة، بل يريد من الشهادات ما يضاهي انتشار فلسطين في الروح والمدى، فضلاً عن إحساسٍ أزيد بالكرامة التي لا تقبل اختطاف ثلث حياتها، على الحواجز العسكرية.
هذا الجيل هو المعوّل عليه في حصد شهادات "العودة"، أما الجيل الذي دخل "متاهة العودة" فأغلب الظن أنه "خرج ولم يعد".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.