تظهر في سورية ملامح لما يمكن تسميته الرغبة العامة بالتخلص من العبء الذي صارت تشكله "جبهة النصرة"، بمسمياتها المتعددة، من "جبهة فتح الشام" و"هيئة تحرير الشام". وكانت محافظة إدلب ومدينتها مسرحاً أولاً وخاسراً لهذه الرغبة الشعبية والفصائلية، إن جاز التعبير، فطيف واسع من السوريين ضاق ذرعاً بسلوكيات "النصرة"، ثم إن الفصائل التي لا تزال محسوبة على خط الثورة السورية وأدبياتها صارت صاحبة مصلحة في التخلص من هذا التنظيم، نظراً لما يشكله وجوده من خطر على الجميع، ذلك أن الرواية الروسية والسورية الحكومية بارعة في تبرير مجازرها بحجة "وجود الإرهابيين".
وحتى مع علم الجميع، أن الروس والنظام السوري والإيرانيين والمليشيات العاملة معهم، لا يحتاجون حججاً لمواصلة القتل والتدمير، إلا أن قناعة تتبلور اليوم، خصوصاً في الغوطة الشرقية، أن وجود "جبهة فتح الشام" يزيد من المخاطر على المدنيين والمسلحين، وعلى ما تبقى من سورية، شعباً وأرضاً. ومنذ أيام، تتبلور هذه الرغبة الشعبية في بلدات الغوطة بتظاهرات مطالبة بخروج مسلحيها، وبتحمية بدأتها فصائل مسلحة لخوض مواجهة ربما تكون وشيكة ضد "النصرة".
وبعد مضي أسبوع على سريان تنفيذ اتفاق "تخفيف التصعيد" في غوطة دمشق الشرقية، وصلت خروقاته إلى أكثر من 90 بحسب إحصائية "الدفاع المدني السوري في ريف دمشق". وفي ما يبدو أن بنود الاتفاق، ماضية نحو تنفيذه، لجهة دخول مساعدات إنسانية للسكان المحليين الخميس الماضي، مع انتشار عناصر من الشرطة العسكرية الروسية في حواجز مشتركة مع قوات النظام في نقاط تفتيش بمحيط الغوطة، فإن بوادر تغير بمعالم خارطة التحالفات العسكرية لقوى فاعلة داخل الغوطة بدأت بالظهور، مع بروز خلافات بين فصيلين غير متفقين، تنظيمياً وفكرياً، وهما "فيلق الرحمن" و"هيئة تحرير الشام"، اللذان تحالفا لضرورات فرضتها توازنات عسكرية، إذ كان كلاهما يخشى من "جيش الإسلام" الفصيل الأبرز والأقوى على الأرض هناك. ولطالما أثار ما يصفه نشطاء في الغوطة بـ"تحالف الضرورة" بين "فيلق الرحمن" و"هيئة تحرير الشام" (التي تشكل جبهة النصرة عمادها الأساسي) تساؤلات كثيرة، حول ماهيته، فـ"الفيلق" و"الجبهة" متباعدان كلياً أيديولوجياً، إذ يُصنف "فيلق الرحمن"، المشكل من مجموعة كتائب وألوية عسكرية، على أنه من الجيش الحر، الذي حاربته "جبهة النصرة" في مناطق شمالي سورية، ولكن تحالفاً جمع بين "الفيلق" و"الجبهة" في الغوطة الشرقية، لمواجهة طموحات "جيش الإسلام" الذي لطالما سعى لبسط نفوذه على كامل الغوطة. ووصل هذا التحالف بين "الفيلق" و"الجبهة" ذروته، أثناء الاقتتال الدامي في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2016 بين "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، والذي تجدد في نفس الفترة تقريباً سنة 2017، إذ انحازت "الجبهة" بالكامل وساندت "الفيلق"، لخشيتها أن يقضي عليها "جيش الإسلام" في حال تمكن من "الفيلق"، وهو الأمر ذاته الذي دفع "الفيلق" لـ"تحالف الضرورة" مع "الجبهة"، بهدف تشكيل سد أمام تعاظم قوة "جيش الإسلام" في الغوطة الشرقية.
لكن ومنذ 22 يوليو/تموز الحالي، وهو اليوم الذي بدأ فيه سريان اتفاق "تخفيف التصعيد" في الغوطة الشرقية، والذي تم التوصل له بعد مباحثات بين ممثلين عن وزارة الدفاع الروسية و"جيش الإسلام"، باتت مسألة وجود عناصر من "النصرة"، في الغوطة الشرقية، أكثر تعقيداً بالنسبة إلى فصائل الغوطة من ذي قبل، مع تأكيد موسكو مراراً أن وجود هؤلاء يمنح "قوات الحكومة السورية الحق في مواجهتهم"، خصوصاً أن الاتفاق كان استثنى أساساً المناطق التي يتواجد فيها عناصر "الجبهة" ضمن الغوطة، وهي متداخلة مع مناطق سيطرة "فيلق الرحمن"، الذي وجد نفسه في زاوية حرجة حيال التعاطي مع هذه التطورات. ويتزامن هذا، مع خلاف وبداية توتر طفا على السطح بين "الجبهة"، المستشعرة بخطر قرب زوالها من الغوطة، و"الفيلق" الذي رحب باتفاق "تخفيف التصعيد"، إذ قتل عناصر من "الفيلق" الجمعة الماضي أحد عناصر "الجبهة"، التي أصدرت بياناً، اتهمت فيه "الفيلق بالاعتداء" على أحد مقراتها في الغوطة، معتبرة أن "اعتداءات فيلق الرحمن عليها قد تكررت في الغوطة الشرقية من خلال قطع الطرقات وأخذ السلاح بالقوة، بالإضافة إلى محاولة اقتحام النقطة الطبية للهيئة بعشرات العناصر والأسلحة الثقيلة"، مطالبة "فيلق الرحمن" بـ"تسليم المجرمين القتلة على الفور". لكن "فيلق الرحمن"، وعلى لسان المتحدث باسمه وائل علوان، اعتبر أن مقتل أحد عناصر "الجبهة" برصاص مقاتلي "الفيلق"، جاء بعد اعتداء على أحد عناصر "فيلق الرحمن" في بلدة حمورية، مؤكداً أن بوصلة "فيلق الرحمن" هي الحاضنة الشعبية، ومؤسسات الغوطة لا تقبل بـ"الإساءات المتكررة من الهيئة (جبهة النصرة)".
وبعيداً عن هذا الخلاف الذي لا يمكن الجزم بإمكانية وشكل توسعه، فإن موسكو كانت أعلنت، عبر مواقع شبه رسمية لها على الإنترنت، ومنذ 24 يوليو الحالي، أي بعد يومين من سريان اتفاق الغوطة، أن "الغارات الجوية ستستمر في مناطق الغوطة الشرقية التي تم تحديدها كمواقع تنشط فيها عناصر متطرفة تتبع لتنظيم جبهة النصرة الإرهابية"، معتبرة أن هؤلاء أمام خيارين "حل أنفسهم بشكل كامل، أو اختيار الرحيل عن المنطقة لضمان سلامتها". وتُرجم ذلك فعلياً في الأيام الأولى لبدء تنفيذ الاتفاق، عبر استمرار الغارات الجوية والقصف المدفعي من قبل قوات النظام لبلدات ومدن في الغوطة، الأمر الذي أسفر عن سقوط 15 قتيلاً، عشرة منهم في بلدة عربين، بحسب ما وثقه "الدفاع المدني السوري في ريف دمشق"، والذي قال إن عدد الخروقات منذ بدء تنفيذ الاتفاق، بلغ 98، عبر 57 غارة جوية، و41 عبر قصف مدفعي وصاروخي، استهدفت مناطق عربين، وحرستا، ودوما، وعين ترما، وزملكا، والمرج، وجسرين، والشيفونية. هذا الاستهداف الجوي والمدفعي والصاروخي، والذي تتذرع قوات النظام وموسكو بأنه استهداف لمناطق تواجد "النصرة" في الغوطة، دفع بسكان محليين في الغوطة، خصوصاً في كبرى مدنها (دوما)، للخروج بتظاهرات الجمعة، تطالب بـ"استئصال النصرة" من الغوطة الشرقية، وترفع، بحسب ما أكد من هناك الناشط الإعلامي، يوسف البستاني، لـ"العربي الجديد"، "شعارات واضحة لا لبس فيها برفض المدنيين لتواجد عناصر النصرة في الغوطة الشرقية". وأكد أن تظاهرات أخرى خرجت في مدن الغوطة، ومنها كفربطنا، رفعت ذات الشعار، فـ"الناس هنا ضاقت ذرعاً من تواجد عناصر الجبهة، الذي تتذرع به موسكو والنظام لمواصلة قصفنا وقتل المدنيين". يشار إلى أن موسكو تضخم أعداد عناصر "النصرة" في الغوطة الشرقية، وتقول إنهم بحدود تسعة آلاف، بينما يؤكد ناشطون في الغوطة، إضافة لتقاطع معلومات من مصادر مختلفة، أن عدد هؤلاء بات أقل من 500 مقاتل، بعد الحملات العديدة التي شُنت ضدهم.