لماذا يصرّ غسان كنفاني (1936- 1972) على قوّة هذا الحضور؟ هل لأنّ ما كتبه لم يتغيّر، أم لأنه كتب ما تغيّر؟ أيّاً يكن.. يحضر غسان فينا اليوم، في ذكرى استشهاده، ليذكّرنا بأسئلتنا الأولى، أسئلة فلسطين التي تهجّاها سؤالاً سؤالاً.
بدأت رحلته في الكتابة من شعوره الخانق بالعار، ومن النّدم ممزوجاً بالعجز. وقد كتب هذه المعاني في بداياته في "أرض البرتقال الحزين" و"موت سرير رقم 12" و"رجال في الشمس"؛ ثم راح يعالج النكبة داخل إطار اجتماعي في "ما تبقى لكم" منتقلاً إلى الفعل، إلى الثورة. ليعود ويستكشف الواقع مع "أم سعد" التي ستعيد له الإيمان بالثورة، وبالقدرة الهائلة لأبناء الطبقات المسحوقة على المعرفة الفطرية لعدوهم، في الداخل والخارج على حدّ سواء.
كانت تلك الأعمال ترصد حياة الفلسطينيين في الخارج، لينتقل بعدها إلى رصد الداخل. فمع متواليته السردية "عن الرجال والبنادق"، أعاد طرح أسئلة المقاومة، والهوية، في إطار فني جديد جعل الرواية قصصاً قصيرة، منفصلةً ومتصلةً في الوقت نفسه.
داخل تلك الروايات كانت شخصياته غارقةً في الحوار مع الذّات، وكأنّها تريد أنْ تقول إنّ على الفلسطيني أن يسائل نفسه قبل الآخرين، ليصل بها إلى المواجهة الكبرى مع العدو، والتي سيديرها في "عائد إلى حيفا".
تدور أحداث الرواية حول الزيارة الأولى للزوجين سعيد وصفية إلى حيفا، بعد مرور 20 عاماً، وبعد حرب 1967 حيث "تسلّل" على أثرها لاجئون فلسطينيون لزيارة بيوتهم السابقة. زيارة ستكشف للزوجين بأن منزلهما الذي لا يزال على حاله تقطنه "إسرائيلية" من أصول بولندية تدعى ميريام وابنها دوف الذي لم يكن سوى خلدون، الرضيع الذي تركاه في حيفا عام 1948؛ قبل أن يصل سعيد، الفلسطيني، إلى استنتاج مفاده أنّ لا بدّ من كفاحٍ ثوري لاستعادة الدار، وأن زيارة الماضي هي عودة ناقصة. فالعودة الحقيقية هي في ذهاب ابنه خالد إلى الثورة، أي المستقبل.
ولكنفاني السبق، لأوّل مرة في الأدب العربي، في إظهار اليهودي كضحية للصهيونية، لا كمشوّه أو في صورة كاريكاتيرية، كما فعلت الكتابات الأيديولوجية.
وهو أوّل من دعا "فتح"، آن ظهورها في البدايات، إلى النقاش. ويومها كتب مقالاً بعنوان "فتح مدعوّة للنقاش" متسائلاً عن هوية المشروع الوطني الفلسطيني، وعلاقته بالخط القومي، وعن الثورة، إلخ. وجاء الردّ منها في كرّاسها الأوّل "فتح تبدأ النقاش" مجيبةً على الأسئلة التي أثارها. وهو أيضاً أبرز من تساءل عمّا يكتبه الصهاينة، وكتابه "في الأدب الصهيوني" هو الأول عربياً في هذا الباب، حيث تتبّع المشروع الصهيوني منذ كان فكرةً، حتى أضحى احتلالاً استعمارياً. وهو، إلى ذلك، أوّل من كتب عن "شعراء الأرض المحتلة" فأحدث رجّة في الشعر العربي الحديث، وأوّل من نشر رسومات الشهيد ناجي العلي.
كان غسان كنفاني من الذين يتقنون العمل في أكثر من مهمّة، وعلى أكثر من جبهة، في وقتٍ واحدٍ. إذ مارس الصحافة ومختلف أنواع الأدب، إضافة إلى نشاطه السياسي في المقاومة الفلسطينية. وإذ نفتقده اليوم، فكمن يفتقد أباً ويتلمّس يتمَه.