في الوقت الذي ينشغل فيه "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر بالاحتفال بذكرى ميلاد المسرحي الإنجليزي وليم شكسبير، على مدار هذا الشهر، حلّت ذكرى ميلاد الروائي الفلسطيني غسان كنفاني (1936-1972)، وكان من الممكن أن تمر مرور الكرام، لولا انشغال عدد من أصدقائه، ومنهم الناقد شعبان يوسف، بإحياء ذكرى ميلاده، بعيداً عن الدوائر الرسمية.
يعود هذا الغياب إلى أبعد من اليوم، وهو ما يكشفه موقفان؛ الأول رواه لكاتبة المقال الشاعر زين العابدين فؤاد منذ عامين عن ندوة عُقدت لكنفاني في مقر "اتحاد الكتاب الأفريقيين – الآسيويين" في القاهرة قبل عام من رحيله، حينما حضر الندوة عدد قليل من الجمهور، وسأله أحد الحضور عن استمراره كحارس مرمى النادى الأهلي، ليضج الحضور بالضحك، حيث ظن السائل أن غسان كنفاني هو مروان كنفاني حارس مرمى النادي الأهلي، والذي كان أكثر شهرة من الكاتب والمناضل الفلسطيني على المستوى الشعبي. الموقف الثاني، نستنتجه مما كتبه يوسف إدريس بعد رحيل كنفاني "اكتشفتُ كاتباً مناضلاً كان قد أهداني مجموعته القصصية وقرأتها بغير اهتمام، وبعد وفاته اكتشفته من جديد".
هل يمكننا اعتبار هذين الموقفين، إضافة إلى عدم استعادته بانتظام مثل كتّاب آخرين، متكأ للحكم بأن كنفاني غائب عن القاهرة منذ زمن طويل؟
حاولت الندوة التي عُقدت الأسبوع الماضي في "ورشة الزيتون" في القاهرة، أن تعيد مشروع كنفاني إلى الذاكرة من مختلف وجوهه وانشغالاته، من السياسي بانتماءاته بين حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى انشغالاته ككاتب يوظّف كلمته في قضية عادلة، ثم أبعاد اهتمامه بالفن التشكيلي، وجوانبه الإنسانية من خلال رسائله إلى غادة السمّان.
وفي تناوله لتجربة كنفاني، استنكر أحمد بهاء الدين شعبان عدم طباعة أعماله الكاملة في القاهرة إلى اليوم، معتبراً زمن الثورات الذي يعيشه العالم العربي، هو الوقت الملائم لإعادة قراءة أدبه. وتحدّث شعبان، من باب صلته الشخصية بصاحب "أرض البرتقال الحزين" حيث عملا سويّاً في "دار الغد"، وكيف كان يقضي عشر ساعات متواصلة في العمل، ويقضي الليل في القراءة والكتابة، حيث كان ينجز يومياً قراءة كتاب كامل، ولا ينام سوى بضع سويعات.
وسلّط شعبان الضوء على الدراسات التي وثّق فيها كنفاني عدداً من الظواهر الأدبية والسياسية، حينما تناول مسألة الأدب الصهيوني وميّز بينه وبين الأدب اليهودي، وهو الطريق البحثي الذي استكمله من بعده غالب هلسا وعبد الوهاب المسيري، إلى جانب الدراسة الموثقة عن ثورة فلسطين 36.
الكاتب والمؤرّخ السياسي الفلسطيني عبد القادر ياسين اعتبر كنفاني "كاتباً مناضلاً"، وليس كاتباً ومناضلاً حيث لم يفصل هو نفسُه بين دوره السياسي كمتحدث باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ودوره ككاتب، إلى جانب أنه لم يساوِ بين الدورين، فكانت الكتابة تشغل الحيز الأكبر من اهتمامات صاحب "القبعة والنبي" ومشروعه.
وأضاف ياسين، صاحب كتاب "دليل الفصائل الفلسطينية"، أن "غسان كان مِلك الشعب الفلسطيني كلّه، والحركة الوطنية بفصائلها المتنوعة، فلم يكن متعصّباً لحركة على حساب الأخرى، وهو أمر نادر من قبل المنتمين للحركات، وقد كان حريصاً أثناء انتمائه لحركة "القوميون العرب"، و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ألا يتولّى أية قيادة، فقط كان يمكث في مجلة فلسطين وملحق "المحرر" وجريدة "الهدف" لساعات طويلة يمارس دوره الأدبي والسياسي من خلال عمله الصحافي والإبداعي".
واعتبر ياسين أن كنفاني هو أول من فتح الباب على ما يسمى بشعراء المقاومة في كتابيه "أدب المقاومة فى فلسطين المستقلة" و"الأدب الفلسطينى المقاوم تحت الاحتلال"، وذلك بمساعدة محمد خالد البطراوي الذي ساعده بالوثائق والمواد الأرشيفية.
من جهتها، تحدّثت لطيفة يوسف، الفنانة التشكيلية الفلسطينية، عن تقاطعاتها مع حياة كنفاني، حيث تعرّفت عليه عندما كانت تعمل في التدريس في البحرين وكانت مسؤولة عن العمل التنظيمي السرّي في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" على جمع التبرّعات وإرسالها بنكياً باسم كنفاني، ليتولى إنفاقها على أنشطة الجبهة، ورغم أنها لم تكن على صلة مرئية به إلا أنها قالت "كان غسان بالنسبة لنا طاقة من النور، كان كياناً بالغ الأهمية في التنظيم، وكان يمتلك بساطة التعاطي مع الجميع".
ضمن شهادتها، أشارت يوسف إلى تصميم كنفاني لـ 12 بوستر خاصاً بـ "الجبهة الشعبية"، وكان هو من كتب كلمة فلسطين المشهورة على الملصقات، وزخرفها بالموتيفات التى تخص بيئة فلسطين، كما أنه كان يمتلك حس التشريح الفني رغم كونه غير دارس للفن التشكيلي، وهو ما اتّضح في عدة بوسترات منها بوستر الإطار النسوي للجبهة وعدّة بوسترات أخرى.
وأضافت يوسف أنّ غسان كنفاني وناجي العلي كان كلاهما متأثراً بالآخر، خصوصاً في الفترة التي عملا فيها سوياً في مجلة "الطليعة"، ويتلخّص هذا التأثر في صلابة الإحساس بالحق والرؤية الاستشرافية للمستقبل.
من جانبه، رأى الكاتب والناقد المصري محمد إبراهيم طه أن موضوع كتابات كنفاني القصصية التي التزمت بالحديث عن النكبة والمخيمات داخل فلسطين وخارجها، لم يثقل على الأدب، فمن الصعب أن تجد في كتاباته كلمة واحدة تكون عبئاً على القصة أو محمّلة بالخطابية، وهو أمر نادر عند الكتابة عن تلك القضايا التي تكون في العادة محملة بطاقة كبيرة من الحماسة.
وأضاف طه أن صاحب "رجال في الشمس" كان دائماً ما يحتفظ بمساحة معينة من السرد ليشرك القارئ فيها لا يملي عليه خطباً أو زاوية معينة. يقول "اكتشفت أن كنفاني لا يقل براعة بل يزيد عن يوسف إدريس في الجانب القصصي، فأجد في قصصه عشرات الطرق لكتابة القصة القصيرة مثلما هو الأمر في "موت سرير رقم 12".
وأشار طه إلى قصة "البطل في الزنزانة" التي يري أنها تبرز كنفاني صاحب الحس النقدى العالي، وتشير إلى قدرته على جعل الأعمال النضالية تملك شرعية أن تكون قصة قصيرة مكتملة الأركان، معتبراً قصة "عالم ليس لنا" تتحدث عن أفكار وفلسفة، وتناولت الأفكار بأكثر من طريقة، وهو ما ينطبق أيضاً على "ثلاث أوراق من فلسطين". يتابع طه أن أعمال كنفاني القصصية غنية باللوحات البصرية التى تصلح لأن تكون أعمال سينمائية ربما أكثر من "رجال في الشمس" التي تحوّلت إلى مسلسل وفيلم سينمائي.
الكلمة الأخيرة كانت من نصيب سامية أبو زيد، الكاتبة وعضو مؤسس "ورشة الزيتون"، والتي تناولت "رسائل كنفاني إلى غادة السمان" واعتبرت أن ما كان يجمع الكاتب الفلسطيني بصاحبة "كوابيس بيروت" هو اللغة، مؤكدة أن هذه العلاقة التي قامت بين غسان وغادة لم يكن يمكن تحميلها أبعاداً جسدية، بل علاقة وصفها كنفاني داخل رسائله "حياتنا سوياً ملحمة تبدأ من العنق وما فوق"!