لحظة اجتزت البوّابة الثانية لمعبر رفح نحو غزّة، مطلع العام 2009، تاركاً سيناء خلفي، لم أنتقل من نقطة حدودية إلى أخرى، أو من بلد إلى آخر. لكنّني قفزت، فجأة، من قارّة إلى أخرى. هذه ليست فكرة خرائط عسكرية وجغرافيا سياسية نسقطها على الواقع وحسب، لكنّها أيضاً هواء وتربة وطبيعة وأشجار وطيور ورائحة وطقس وتضاريس، تُضاف إليها ذاكرات وتواريخ، تصنع علامات وفوارق وحدوداً، واختلافاً في العمران، وصور الحياة، وأمزجة الناس وألوان البيئة.
كل ما يفصل أفريقيا ويميزها عن آسيا، أو لنقل يرسم الحدّ بين بلاد النيل وبلاد الشام، يظهر في هذا الشريط الحدودي الضئيل عند نقطة رفح. فموقع مدينة غزّة عند خطّ التقسيم المناخي، وعلى خط عرض 31.3 درجة شمال خط الاستواء، جعلها تحتلّ الموقع الحدّي بين الصحراء جنوباً ومناخ البحر المتوسط شمالاً. فهي العلامة الفارقة بين إقليمين متباينين.
ليس صدفة أنّه هنا، دوماً، تنتهي الدول أو تبدأ. هنا المعارك "الفاصلة" التي تفتح إما المشرق العربي أو أرض الكنانة. هنا المعبر الهائل وهنا الحدّ. ساحة قتال معظم الإمبراطوريات في العالم القديم والحديث، الكنعانية والفرعونية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية والإسلامية ثم الصليبية. هذا قَدَر غزّة الجغرافي منذ أيام تحتمس الثالث وحتى أيّام محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، وصولاً إلى الجنرال اللنبي أو آرييل شارون. كان الأمر يتكرّر منذ آلاف السنين، ويبدو أنّه سيبقى كذلك.
بغتة، باتت رمال الصحراء خلفي والتربة الخصبة أمامي. هنا تبدأ أرض الزيتون والتين، والهواء المشبع بالرطوبة. فجأة يتلاشى الغبار وتظهر حقول الفراولة المحاطة بالصبّار. تظهر البيوت المحاطة بالبساتين ومزارع الخضرة الصغيرة. يختفي الخلاء الرملي ويبدأ الاحتشاد الهائل والكثيف لكلّ شيء: البشر والحجر والعشب والأصوات والسيارات والروائح التي تحوم وتختلط في الفضاء، مشكّلة برهاناً إضافياً على كثافة الحياة وفوضاها وصخبها وتلاطم أنفاسها، بعدما كنت قد اجتزت مئات الكيلومترات من الصمت والخواء وسكون الأرض والسماء.
تندلق عليّ في لحظة واحدة بلاد جديدة بكل ما فيها، بعد مسافة شاسعة من فراغ، على امتداد سيناء. وأقول: ها هي فلسطين، هنا "الأرض الموعودة" التي أصلها الآن، متذكراً تلك اللحظة حين وقف العبرانيون ليروا بأمّ العين، للمرّة الأولى بعد تيه أربعين عاماً، أرض الكنعانيين، أرض اللبن والعسل.
ما من لبن وعسل بانتظاري في غزّة 2009، بعد يومين فقط من انتهاء الحرب الإسرائيلية عليها. لكنّ شعوراً عميقاً باغتني بأنّني "وصلت"، كما شعر يوليسيس لحظة عودته إلى "إيثاكا". هذه الأرض أعرفها وألفتي بها ليست غامضة وليست تماماً نابعة ممّا تشربناه من أدبيات الحسرة على فلسطين، والعواطف الشعرية عن فلسطين السليبة. هذه الإلفة "ترابية" (إن جاز التعبير). إنّها على الأرجح امتداد حقيقي، في الأرض والمناخ، لموطني. وسيتأكّد هذا اليقين لحظة تتراجع اللهجة المصرية النقية وأبدأ بسماع اللهجة الغزّاويّة التي يختلط فيها المصري والبدوي والفلسطيني. سأرى الاخضرار متدرّجاً ومتصاعداً كلّما امتدّ بصري شمالاً وشرقاً، يقابله من الغرب شريط البحر المتوسطي، وقد اكتسب هو بدوره طابع الألفة، ما دام الصيادون وقواربهم ينتشرون هنا.
ذهبت من القاهرة إلى غزّة، متخيّلاً أنني سأدخل أرض الفقر والفاقة والجوع، أرض الحصار المديد، أرض الندرة في كل شيء، والعوز. عدا أنّها مصابة بالخراب والفوضى. كنت أتخيّل أنّ غزّة ليست سوى دمار جديد يتراكم فوق دمار قديم، تحكمها ميليشيا متجهّمة ومستنفرة لإطلاق النار دوماً، ولا شيء سوى العشوائية وعلامات البؤس والتعاسة. لم أكن متمسّكاً بمواقف مسبقة، لكنّ ذاكرة الصور والأخبار التي تلقّيناها طويلاً عن غزّة، مضافاً إليها ذاكرتنا الخاصّة وتجربتنا في الحروب اللبنانية، جعلتني شبه متأكد ممّا تخيلته عن غزّة وأحوالها، قبل دخولي إليها.
مع ذلك، فقد كان الانتقال من بوابة رفح المصرية، حيث لا شيء سوى المعبر الحدودي بمعماره الضخم والمتعجرف، لكن المتقشّف والجاف، المتكبّر الذي يبدو القصد من هندسته بثّ "هيبة" الدولة المصرية، والخالي من أيّ لمسة جمالية.. ثم الدخول إلى المعبر الفلسطيني الذي هو عبارة عن حديقة لا تبثّ سوى اللطف والجمال المتواضع، والترتيب البسيط الذي يبثّ الطمأنينة. فبدا هذا بدوره انتقالاً من صحراء مترامية إلى واحة صغيرة. هذا الانطباع الأوّل ستعزّزه مشاهد طريق الرحلة إلى قلب مدينة غزّة، حيث تتوزع القرى والبلدات والمزارع الصغيرة: ريف متوسطيّ ساحليّ، ووفرة زراعية ووداعة في وجوه الناس ولطف في النسائم الشتائية.
لن أكرّر هنا تقاريري الصحافية التي كتبتها آنذاك، عن المصائب التي نزلت بغزّة، عن الدمار والبؤس الذي حلّ فيها، عن معاناة الناس اليومية، خصوصاً منهم سكان المخيمات، الذين يستأنفون تراجيديتهم منذ العام 1948، وعن المستشفيات المكتظّة بالجرحى، عن مآسي العائلات وخسارة أبنائها ودمار بيوتها، عن كلّ الويلات، التي تتكرّر اليوم على نحو مضاعف وأقسى. لن أكتب الآن ما كتبته العام 2009، عن الأنفاق و"حكومة حماس" ومافيات التهريب أيضاً، والفقر وبعض مظاهر الثراء المشبوه... لكن أتذكّر الآن قوّة حيلة أهل غزّة، إصرارهم في التفوّق على الفقر، قدرتهم على التدبير وتصريف شؤونهم. لم أستطِع منع نفسي من مقارنة أحوالهم بأحوال القسم الأكبر من المصريين مثلاً. فالغزّاويون شديدو التعلّق بمستوى لائق من الحياة، وحرصهم واضح على النظافة والأناقة، والإقبال على كلّ أشكال الحياة، وجودة الطعام والنوعية الجيّدة للمواد الغذائية، وتشييدهم البيوت والبنايات والفيلات الفخمة.
مجتمع منكوب ومحاصر وفقير، وفي حال حروب متوالية، لكنّه أيضاً حريص أشدّ الحرص على مظاهر الوفرة، على إتقان إعداد أطيب الحلويات، على تشييد فنادق صغيرة وممتازة بإدارتها وأثاثها وخدماتها، على وجود المقاهي الراقية، على مستشفيات رفيعة المستوى طبابة وتمريضاً وشروطاً صحية. بل إنّ أبسط المطاعم، وهي كثيرة، تقدّم أشهى المأكولات البحرية واللحوم، وهي بالغة النظافة وتحسن الخدمة. لا شيء من شروط الحياة العصرية مفقود في غزّة، بأهلها الذين يعاندون كلّ الظروف، ليصونوا نمط حياة كريمة، وليحفظوا قدرتهم على الكرم الباذخ.
ما أذهلني في غزّة حينها، ليس فقط نظافة الشوارع وأرصفتها، وليس الكثافة السكانية واكتظاظ كلّ شيء وضيق مساحتها، ولا كلّ هذا الدمار الموزّع في كل مكان... بل هي روح الناس وقدراتهم الفائقة على توفير كلّ مستلزمات العيش العصري، ووفرة كلّ حاجياتهم بما في ذلك إقبالهم على اقتناء التكنولوجيات ووسائل الاتصال وأدوات الترفيه، وحرصهم على اقتناء السيارات ومظاهر الأناقة والترتيب والبيوت المؤثثة جيداً.
كما لو أنهم ينافسون عمداً وتحدياً مستوى معيشة الإسرائيليين المرتفع. إنّهم بهذا المعنى يقولون: "نحن جديرون بالحياة، نحن أيضاً نحبّ الحياة لا الموت". سيفاجأ كلّ من يذهب إلى غزّة بمهارة مزارعيها وخبرتهم في إنتاج المحاصيل الوفيرة من أراض شديدة الصغر. حتّى أنّهم كانوا يصدّرون أجود أنواع الزيتون والفراولة والحمضيات، إلى إسرائيل حتّى. سيفاجأ أيضاً بنوعية التعليم والمدارس وإجادة القسم الأكبر من التلاميذ لغاتٍ أجنبيةً. كذلك حيوية التجارة (الشرعية منها والسريّة) التي تضخّ ثروات لا بأس بها على أهل القطاع. سيرى روح صيادي البحر المنفتحة على العالم وعلى المغامرة. هنا سيرى زائر غزّة المرارة الدائمة، التي تعلوها ضحكة حبّ الحياة.
هي غزّة، بهذا المعنى، تكثّف روح بلاد الشام والعناد الفلسطيني والانفتاح المتوسطي. وربما لهذا السبب هي ميدان المعارك التاريخية، إما لتحرّر المشرق العربي وإما للسيطرة عليه. هي مفتاح أرض اللبن والعسل، أو معبر الصحراء والقحط.