غزّاويات: ما في ميّة نتحمم... مشان نلاقي ميّة للجلي

22 يوليو 2014
من يوميات غزّة (تصوير Pacific Press / Getty)
+ الخط -
فيما يدخل العدوان على غزّة أسبوعه الثالث، امتلئ غيظاً من هذا الشخص، رغم كلّ ظروف الخوف التي نعيشها. إلا أنّني لم أستطع أن أنتزعه من محور تفكيري، رأيته مستفزّاً، ورأيته ساذجاً، ورأيته مُجازِفاً، ورأيته طمّاعاً. كلّ هذا في وقت واحد.
يدخل حيّنا في الصباح الباكر وهو يجرّ عربة يد صغيرة مزوّدة بمكبّر صوت، وينادي على بضاعته وسط هدوء الحيّ تارة، وتحت صوت القصف الجويّ تارة أخرى. لا شيء يوقفه أو يعيقه، ينادي من خلال مكبّر الصوت: كلور، ماء نار، سائل جلي، سائل بلاط، سائل غسيل، معطّر أرضيات.
باختصار هو يبيع مواد التنظيف المختلفة والرخيصة، التي يتمّ إنتاجها محلياً في غزةّ، وغالباً بدون رقابة صحيّة، مما يجعلها تسبّب الأمراض الجلدية إلى جانب قدرتها على التنظيف. فمسحوق غسيل الملابس مَثَلاً يحتوي على كميّة كبيرة من "ماء النار" الذي يسبّب تشقّق وتسلّخ الأيدي، لكنّ ربّات البيوت الفقيرات يُقبلنَ على شرائه لانخفاض أسعاره طبعاً ولتقديمه عروضاً تشجيعية لهن،ّ مثل قطعة من الصابون أو إسفنجة لجلي الأطباق.
ونحن في غزّة نعيش منذ بداية الحرب معاناة خاصّة مع شحّ المياه بسبب تفجير آبار المياه، وانقطاع التيّار الكهربائي المتواصل، مما يعني أنّ كلّ أعمال البيت التي تحتاج إلى مواد تنظيف يبيعها هذا الرجل الغريب الأطوار تُعتَبَر ترفاً أو غير ضرورية للاستخدام في الوقت الحالي. ولا يجني هذا البائع، الذي لا يهدأ ولا يكلّ أو يملّ، سوى السخط وتمتمتي بالشتائم وأنا في بيتي، بسبب إزعاجه وجرأته، وتكالبه على الدنيا، حسبما أتخيل.
في الحقيقة احترت في تفسير تصرّفه وراقبته جيداً فلم أجد أيّ ربّة بيت تفتح باب بيتها وتخرج لتشتري منه أيّ شيء. ويوماً بعد يوم استمرّ في جولاته ونداءاته الصباحية المزعجة. لكن اليوم أدركت أنّه ليس مزعجاً بالنسبة لي فقط. لأنّه بمجرّد ظهوره عند ناصية الشارع وهو يستعدّ لدفع عربته ودخول الحيّ، كان هناك بعض الصبية من أبناء الحيّ يلتفّون من حوله وينهالون عليه ضرباً، وهم يصرخون في وجهه: "يا بني آدم، إحنا مش لاقيين ميّة نشرب أو نتحمم، مشان نلاقي ميّة ننظف فيها بيوتنا".
 طبعاً كان يصرخ ويقول: "حرّمت... حرّمت". وأنا كنت سعيدة بهذا الجزاء الذي ناله لأنّني اكتشفت أنه ليس مزعجاً بالنسبة لي فقط بل كان يثير أهل الحيّ جميعاً، ممن بدأت أجسادهم تصاب بالعطن، وتنبعث منها روائح كريهة من قلّة الاستحمام، وهو يروح يقدّم إليهم عروضه الصباحية لغسل الأواني والأطباق والأرضيات والملابس وغيرها.
المساهمون