غزة اسم آرامي قديم وُجد مكتوباً في أقدم صوره في التوراة، ووُجد أيضاً في النصوص الفارسية القديمة بصيغة "هازاتو". ومهما تكن الآراء في أصل هذه التسمية، فإنها كانت تدل دائماً على موقع مدينة غزة كما نعرفه اليوم، وكما تُعرّفها المصادر العربية التاريخية.
وهذه المدينة هي محطة النهاية لرحلة القوافل المتجمعة في اليمن أو حضرموت، والمتجهة شمالاً نحو مكة ويثرب، ثم إلى البتراء. وفي البتراء كانت القوافل تنقسم قسمين: أحدهما يتجه نحو دمشق وتدمر، والثاني نحو غزة.
بالتدريج تحولت غزة إلى مركز تجاري، وفيها مات هاشم بن عبد مناف جد النبي محمد، فصارت تُكنى بـ "غزة هاشم"، وهي أيضاً مسقط الإمام الشافعي المولود فيها في عام 767 ميلادية. وفي العصر الحديث اشتهرت محطتان مهمتان على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط هما غزة ويافا اللتان كانتا معبراً للمصريين الذاهبين إلى الشام، وللشوام الراحلين إلى مصر.
وقد تقاطرت العائلات الشامية، وبدرجة أقل المصرية، على هاتين المدينتين، حتى أن الجد الأعلى لياسر عرفات (عرفات بن محمد بن يوسف القدوة) هو تاجر حلبي الأصل استقر مع شقيقه في غزة منذ القرن السابع عشر.
لكن يافا غمرتها الحداثة بقوة، بينما تخلّفت غزة عن ذلك لأسباب متفاعلة منها قوة شبكات الأشراف والأعيان ورجال الدين، قياساً على ضعفها في يافا. وفي جميع المراحل كانت غزة، باستمرار، بوابة سيناء التي هي مدخل مصر الشرقي من جهة الشام.
وفي غزة كانت تمر الطرق العابرة لسيناء كالطريق الساحلي وطريق الحج وطريق الشام. فسيناء، جغرافياً، هي المكان الذي يلحم مصر والشام والجزيرة العربية، وفيه تجتمع آسيا وأفريقيا معاً.
والسهل الساحلي في سيناء هو امتداد للسهل الساحلي الفلسطيني، والهضبة السيناوية هي استمرار لبادية الشام، وكتلة الجبال فيها هي عقدة الالتحام بين الجزيرة العربية والانهدام السوري – الأفريقي (الأخدود البركاني الكبير الممتد من البحر الأحمر إلى البحر الميت فالأغوار وسهل البقاع حتى حمص).
في هذه البقعة بالتحديد تقع مدينة غزة. وقد ازداد موقعها أهمية في العصر الحديث، علاوة على أهميتها التاريخية، بعد اتصالها بمدينة القنطرة في مصر من خلال سكة الحديد التي أنشأتها بريطانيا لربط القنطرة بحيفا لأغراض عسكرية وتجارية.
وهذا الخط امتد شمالاً حتى تركيا في موازاة الساحل السوري، الأمر الذي أتاح تواصلاً مع المدائن اللبنانية والسورية وحتى التركية، خصوصاً أن غزة حظيت بميناء بحري ومطار جوي منذ سنة 1927.
ومع ذلك فإن نصيبها من الصحافة مثلاً كان قليلاً مقارنة بمدينة يافا التي تقع على الساحل نفسه، وغير بعيدة عنها إلى الشمال. وجل ما عرفته غزة من الصحافة قبل نكبة 1948 مجلة "صوت الشباب" التي أصدرها فؤاد كمال الطويل سنة 1946، ومجلة "صوت العروبة" التي أسسها جميل ضيا زادة في سنة 1947، فضلاً عن مجلة "الشروق" التي أصدرها عبد المجيد حنونة في الفالوجة (قضاء غزة) في سنة 1947.
لكن غزة أنجبت أعلاماً كباراً في الشعر والسياسة والفن التشكيلي أمثال معين بسيسو وهارون هاشم رشيد على سبيل المثال، وكامل المغني وليلى الشوا وعبد الرحمن المزين وفتحي غُبن وزهدي العدوي ومحمد الركوعي ومحمد مسلّم في الفن التشكيلي، وياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وحيدر عبد الشافي ورشاد الشوا وعز الدين الشوا في السياسة، وغيرهم كثيرون بالتأكيد.
المسيحية وغزة
الرواية المسيحية التقليدية تعتقد أن المسيح ووالدته مريم والقديس يوسف (النجار)، أي العائلة المقدسة، استراحوا في غزة خلال رحلتهم من بيت لحم إلى مصر. ولهذا تكتسب مدينة غزة مكانة دينية في التقليد المسيحي التاريخي. وقد بُني في غزة أول دير في فلسطين كلها، وهو الدير الذي بناه القديس هيلاريون في سنة 329 ميلادية.
وفي غزة اليوم ثالث أقدم كنيسة في فلسطين بعد كنيستي المهد في بيت لحم، والقيامة في القدس، وهي كنيسة القديس برفيروس التي شيدت في القرن الرابع الميلادي. وفي سنة 2000 كان عدد المسيحيين في غزة نحو خمسة آلاف شخص، لكن أعدادهم بدأت في التناقص بعد اعتداءات طاولتهم منذ سنة 2006 فصاعداً، مثل تفجير مدخل جمعية الكتاب المقدس، ونهب دير مدرسة راهبات الوردية وإحراقه وغير ذلك. وفي غزة خمس مدارس مسيحية هي العائلة المقدسة والبطريركية اللاتينية وراهبات الوردية وراهبات المحبة ومدرسة الروم الأرثوذوكس.
ومن بين الجمعيات العاملة في الوسط المسيحي الغزي جمعية الشبان المسيحيين وجمعية كاريتاس واتحاد الكنائس والبعثة البابوية وجمعية الإغاثة الكاثوليكية. وكان حسام الطويل هو العضو المسيحي الوحيد عن غزة الذي انتخب في المجلس التشريعي الفلسطيني في سنة 2006.
بلدانية غزة
قطاع غزة هو الشريط الساحلي الضيق الذي بقي في أيدي القوات المصرية التي اجتازت الحدود إلى فلسطين في سنة 1948، واحتفظت به بعد توقيع اتفاق الهدنة مع اسرائيل في سنة 1949. ومنذ ذلك التاريخ حُصرت مدينة غزة في نطاق قطاعها الذي ضم ثلاث مدن أخرى هي: دير البلح وخانيونس ورفح. وبهذا التطور انقطع اتصال غزة ببقية أجزاء فلسطين وببلاد الشام، واقتصر اتصالها بالعالم على منفذ وحيد هو مصر.
تبلغ مساحة القطاع 364 كلم2، بطول لا يتعدى الأربعين كيلو متراً، وعرض يراوح بين 6 و 10 كيلومترات. والمعروف ان الشارع الرئيس الذي يخترق مدينة غزة هو شارع عمر المختار الذي شقه، أول مرة، جمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني. وتنقسم المدينة إلى أحياء أشهرها سبعة هي: حي الدرج، حي الزيتون، حي التفاح، حي الرمال، حي الشجاعية، حي الشيخ رضوان، حي الصبرة.
وفي قطاع غزة ثمانية مخيمات أساسية هي: رفح، خانيونس، دير البلح، المغازي، النصيرات، البريج، الشاطيء، جباليا، علاوة على مخيم الجرن ومخيم بيت حانون ومخيم البرازيل ومخيم كندا ومخيم يبنا ومخيم الشابورة، والثلاثة الأوائل أنشأتها جمعية الكويكرز في البداية قبل أن يتم تأسيس الأونروا في سنة 1951، وتبدأ عملياتها الإغاثية والرعائية في أماكن شتات الفلسطينيين.
كان عدد سكان قطاع غزة عشية نكبة 1948 نحو 80 ألف شخص فقط. وخلال معارك 1947- 1948 تدفق على القطاع نحو 200 ألف فلسطيني مرة واحدة، ليرتفع العدد في سنة 1950 إلى نحو 290 ألفاً، ثم إلى 310 آلاف في سنة 1954، فإلى 350 ألفاً في سنة 1960، وإلى 455 ألفاً في سنة 1966.
لكن هذا العدد انخفض إلى 354 ألفاً في سنة 1947 جراء حرب حزيران/ يونيو 1967 ونزوح كثيرين من سكان القطاع. ويبلغ عدد سكان القطاع اليوم نحو مليون وثمانمئة ألف نسمة، يمثل اللاجئون نحو 60% منهم. وبهذا المعنى فإن قطاع غزة هو الأعلى كثافة سكانية في العالم، إذ تبلغ الكثافة فيه نحو 8750 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، الأمر الذي يجعل القطاع كله عبارة عن مخيم واحد متعدد المواقع.
أما الاقتصاد في القطاع فهو يعتبر من الاقتصادات البسيطة التي تشكل فيها الزراعة العنصر الأساس، وبالتحديد زراعة الحمضيات. وتستورد الأونروا الجزء الأكبر من واردات القطاع لتأمين حاجات اللاجئين، ويتوزع الباقي على الصيد البحري وتحويلات أبناء القطاع العاملين في دول الخليج العربي. وفي الفترة الأخيرة، وجراء الحصار المشدد على القطاع، صار "اقتصاد الأنفاق" مورداً مهماً لعدد كبير من التجار والعاملين في هذا الميدان والمهربين، ما يعني ازدياد الرثاثة في دورة الحياة الانتاجية.
شيء من التاريخ
في 10/7/1948، أي بعد أقل من شهرين على النكبة، ألّفت جامعة الدول العربية ما سُمّيَ آنذاك "الإدارة المدنية الموقتة لفلسطين" برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي التي اقتصر نطاقها الوظيفي على قطاع غزة والتي تحولت في 23/9/1948 إلى "حكومة عموم فلسطين".
وفي 30/9/1948 شهدت مدينة غزة عقد المؤتمر الوطني الفلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني، الذي أذاع إعلان استقلال فلسطين يومذاك، وثبّت أعضاء حكومة عموم فلسطين على النحو التالي: أحمد حلمي عبد الباقي (رئيساً)، جمال الحسيني (وزير الخارجية)، رجائي الحسيني (وزير الدفاع)، عوني عبد الهادي (وزير الشؤون الاجتماعية)، أكرم زعيتر (وزير المعارف)، حسين فخري الخالدي (وزير الداخلية)، علي حسنة (وزير العدل)، ميشال أبكاريوس (وزير المال)، يوسف صهيون (وزير الدعاية)، أمين عقل (وزير الزراعة). واتخذ هذا المؤتمر قراراً بأن يكون علم فلسطين هو نفسه علم الثورة العربية، لكن من دون نجوم.
عارض الملك عبد الله بن الحسين هذا المؤتمر، وبادر إلى حث أنصاره الفلسطينيين على عقد مؤتمر في سينما البتراء في عمان في 1/10/1948 بتشجيع من رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى الذي انتحر لاحقاً لأسباب شخصية، وترأس هذا المؤتمر سليمان التاجي الفاروقي. وخلال ساعتين فقط أقر مؤتمر عمان عدم شرعية حكومة عموم فلسطين.
وفي 1/12/1948 عقد مؤتمر ثانٍ في أريحا برئاسة محمد علي الجعبري ليعلن وحدة الأراضي الفلسطينية والأردنية تحت تاج الملك عبد الله. ولم يطل الأمر حتى جرت انتخابات موحدة في الضفة الغربية وفي إمارة شرق الأردن في 11/4/1950، وفي 24/4/1950 أقرّ المجلس النيابي الجديد وحدة الضفتين. أما حكومة عموم فلسطين فلم تعترف بها الأمم المتحدة، ولم يعترف بها أحد من الدول غير سورية والسعودية.
واستمرت الحال على هذا المنوال حتى 23/9/1952 حين أصدر مجلس جامعة الدول العربية المؤلف من وزراء خارجية الدول الأعضاء قراراً يقضي بتجميد أعمال حكومة عموم فلسطين، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة العسكرية المصرية، والاكتفاء بمكتب تمثيلي في القاهرة لحكومة عموم فلسطين لأغراض المعاملات ووثائق السفر وتمثيل فلسطين في جامعة الدول العربية. واستمر أحمد حلمي عبد الباقي ممثلاً لفلسطين لدى الجامعة حتى وفاته في 29/6/1963، فدفن في القدس، وعين أحمد الشقيري في مكانه.
العمل الفدائي
ظهر العمل الفدائي، أول ما ظهر، في قطاع غزة ابتداء من سنة 1954. في تلك المرحلة تبلورت البدايات الأولى للخلايا التأسيسية التي تطورت منها لاحقاً حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
وفي هذا السياق لمع خليل الوزير (أبو جهاد) كواحد من الشبان الذين انغمسوا في التدريب العسكري، وفي تأسيس المجموعات القتالية، ثم إرسالها لتنفيذ العمليات العسكرية ضد وحدات الجيش الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية القريبة من القطاع. وأشهر تلك العمليات نسف خزان زوهر للمياه في 25/2/1955 الذي ردت عليه إسرائيل في 28/2/1955 بغارة دمرت خزان المياه الذي يزود غزة بالماء عند بئر الصفا.
وعلى الفور التهبت غزة بانتفاضة شعبية اندلعت في 1/3/1955 طالبت بالتسليح والتدريب وإطلاق أيدي الفدائيين للتصدي للعدوان الإسرائيلي. وكان أن دعمت القيادة المصرية الجديدة التي تولت الحكم في أثر ثورة 23 يوليو 1952، عمليات الفدائيين التي راحت تتصاعد بثبات منذ أيلول/ سبتمبر 1955، واستمرت حتى العدوان الثلاثي على مصر في 29/10/1956.
وفي هذا الحقل ظهر اسم الضابط المصري مصطفى حافظ الذي كان يرعى عمليات الفدائيين، والذي اغتالته إسرائيل في خانيونس في 11/7/1956، كما برزت "الكتيبة 141- فدائيين" التي دربت كثيراً من الشبان على عمليات الرصد وصنع المتفجرات والإغارة.
ومهما يكن الأمر، فإن عمليات الفدائيين انطلاقاً من قطاع غزة في أواسط خمسينيات القرن المنصرم كانت المقدمة الأولى لعمليات الفدائيين التي دشنتها حركة فتح منذ 1/1/1965 فصاعداً.
وفي أي حال، دفع قطاع غزة أثماناً باهظة لاحتضانه الفدائيين، فنفذت إسرائيل مجزرة في غزة في 10/11/1956 غداة احتلالها قطاع غزة، ثم نفذت مجزرة أخرى في رفح في 12/11/1956، قبل أن تجلو عن القطاع وعن سيناء في 7/3/1956.
وفي معمعان تلك الأحوال والأهوال تبلور وعي كثير من الغزيين واللاجئين إلى قطاع غزة في شأن العمل المسلح أمثال خليل الوزير وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وعبد الفتاح حمود، فضلاً عن ياسر عرفات وزهير العلمي وصلاح خلف وسليم الزعنون وسعيد المزين ويحيى عاشور وحمد العايدي، وهؤلاء ائتلفوا مع مجموعات فلسطينية أخرى في قطر والسعودية وسورية ليشكلوا معاً في سنة 1959 حركة فتح بصورة سرية، التي لم تلبث أن أعلنت وجودها في 1/1/1965 كما بات معلوماً.
تسارعت وتيرة المقاومة بعد الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967، وتنافست فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على مقاومة الاحتلال والتصدي للجيش الإسرائيلي.
وفي هذا الميدان لمع اسم الشهيد محمد محمود الأسود (غيفارا غزة) كأحد أبرز الفدائيين الذين أذاقوا قوات الاحتلال طعم الحنظل، فضلاً عن مستوطناته أمثال: غان أور، قطيف، دوغيت، نيتسار حزاني، إيلي سيناي، رفيح يام، غاني طل، كفار داروم، كفار يام، موراغ، نتساريم، نفي دكاليم، نيتسانيت، وهذه كلها هدمها الجيش الإسرائيلي قبل انسحابه من قطاع غزة في سنة 2005 بعد احتلال دام 38 سنة، تخللته مقاومة مسلحة متمادية وانتفاضة شعبية كانت بدايتها عند معبر إيريز في 8/12/1987.
لم يسلم قطاع غزة من حروب إسرائيل، صغيرة أَكانت هذه الحروب أم شاملة. ففي نيسان/ إبريل 2001 نفذت إسرائيل عملية عسكرية سمّتها "حقل الأشواك" ضد رفح وخانيونس، ودامت خمسة أيام. وفي أيار/ مايو 2004 دفعت إسرائيل بقواتها نحو رفح في عملية دعتها "قوس قزح". وفي أيلول/ سبتمبر 2004 قامت إسرائيل بعدوان واسع على مناطق شمال القطاع دام 17 يوماً، وأطلقت عليه اسم "أيام الندم".
ولم تتوقف عملياتها المحدودة التي اتخذت أسماء منها "الواقي الأمامي" و"رياح خريفية" و"السهم الجنوبي"، إلى أن نفذت عملية عسكرية كبرى سمتها "أول الغيث" في 25 أيلول/ سبتمبر 2005 استمرت سبعة أيام، ثم "سيف جلعاد" في حزيران/يونيو 2006 غداة اختطاف الجندي جلعاد شاليط. وأتبعتها بعملية "أمطار الصيف"، وهي تطوير لعملية الجندي جلعاد شاليط..
ثم ازداد عدوانها شراسة ابتداء من عملية "الشتاء الساخن" التي بدأت في 27/2/2008 وانتهت في 13/3/2008، ثم عملية "الرصاص المصبوب" (27/12/2008 حتى 21/11/2012)، ثم عملية "الجرف الصامد" في 8/7/2014.
الإسلاميون في غزة
لم يكن للحركة الإسلامية في فلسطين، وفي غزة خصوصاً، أي شأن يُذكر في النضال الوطني الفلسطيني. وكانت ذريعة الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، أن الأولوية هي لإصلاح الفرد وإيجاد المجتمع الاسلامي الصحيح، والخليفة وحده هو مَن يعلن الجهاد.
ولا يختلف حزب التحرير الإسلامي الذي أسسه الفلسطيني تقي الدين النبهاني في القدس سنة 1952 عن هذا الموقف. وبناء على هذا التصور استنكف الإسلاميون طوال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات عن المشاركة في النضال الوطني بجانبيه السياسي والعسكري.
ثم جاءت الانتفاضة الأولى في سنة 1987 لتطلق العمل الإسلامي من عقاله، ولا سيما أن حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين كانت قد ظهرت في سنة 1985، وراحت تشكل تحدياً جدياً للتيارات الإسلامية ذات الطابع الإخواني.
ومع تأسيس "السلطة الوطنية الفلسطينية" غداة اتفاق أوسلو في سنة 1993 عمد البعض من جماعة الإخوان المسلمين في غزة إلى تأسيس "حزب الخلاص الوطني الإسلامي" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 للتكيف مع النظام السياسي الجديد الذي شرع بالتشكل، والذي اتخذت حركة حماس موقفاً معارضاً له في الوقت نفسه.
وفي كانون الثاني/ 1996 خاض بعض الإسلاميين الانتخابات التشريعية الفلسطينية تحت يافطة المستقلين وفاز منهم كل من: عماد الفالوجي وسليمان الرومي ويوسف الشنطي وموسى الزعموط ووجيه ياغي ومعاوية المصري. وأصدر حزب الخلاص الوطني الإسلامي صحيفة "الرسالة" في 13/2/1997 وتولى صلاح البردويل رئاسة تحريرها، وهو من رجال حركة حماس المعروفين.
واستمرت الحال على هذا النحو حتى 14/6/2007 حين استولت حماس بالقوة العسكرية على مقدرات قطاع غزة، وانفردت في السيطرة عليه سياسيًا وعسكرياً في انقلاب دموي راح ضحيته مئات الشهداء.
مارست حركة حماس عقب سيطرتها على قطاع غزة سلوكاً مخالفاً للثقافة الوطنية الفلسطينية وللميراث الجماعي الوطني، فعمد بعض أعضائها إلى إنزال العلم الفلسطيني عن صارية المجلس التشريعي الفلسطيني ورفع راية حماس بدلاً منه، وكذلك إنزال العلم من المدارس التي تسيطر عليها حماس التي، فوق ذلك، ألغت النشيد الوطني، وراحت تطبق مبادئها على المجتمع مثل فرض الحجاب والفصل بين البنات والصبيان حتى في المدارس الابتدائية... إلخ.
وظهر، في ما بعد، أن الميل إلى تأسيس إمارة إسلامية في غزة كان موجوداً في تفكير بعض قادة حماس أمثال محمود الزهار وغيره حتى قبل سنة 2007، ولعله تفاقم بعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية في مصر.
لكن هذا المناخ المفعم بالأيديولوجيا الإسلامية راح، في بعض الفترات، ينفلت من عقاله، وتظهر في سياقه عشرات المجموعات المتطرفة أمثال "جيش الإسلام" بقيادة ممتاز دغمش الذي اختطف الصحافي البريطاني آلان جونستون.
وقد قضت حماس على هذا الجيش الذي انشق عنها في سنة 2006، وكذلك جماعة "جند أنصار الله" التي ظهر قائدها عبد اللطيف موسى في 15/8/2009 ليعلن إصرار جماعته على تأسيس إمارة إسلامية في غزة، ونفذ "غزوة البلاغ" حين قام مقاتلون ينتمون إلى هذه الجماعة بامتطاء الجياد والهجوم على موقع إسرائيلي، فقتلوا جميعاً.
وفي سياق هذا المناخ الجديد ظهرت مجموعة قاعدية مارست التفجير والقتل والاختطاف والإعدام (مثل إعدام الناشط الإيطالي فيتوريو أريغوني) وكان من بينها "كتائب التوحيد والجهاد" و"جلجلت" و"قاعدة الجهاد في ولاية فلسطين" و"سيوف الحق في أرض الرباط" وغيرها.
قطاع غزة في التفكير الإسرائيلي
ليس قطاع غزة جزءاً من أرض الأسباط اليهود بحسب العقيدة اليهودية، لهذا لم يواجه أريئيل شارون حين قرر الانسحاب منه في سنة 2005 أي مقاومة يهودية جدية، إلا مقاومة طفيفة من المستوطنين الذين نُقلوا إلى أماكن جديدة ودُمرت مستوطناتهم القديمة.
وعلى الرغم من الانقسام الجغرافي والسياسي الذي حاق بالفلسطينيين منذ سنة 2007، فإن من المؤكد أن لا مستقبل لقطاع غزة من دون الضفة الغربية، ومن المحال تأسيس أي شكل، ولو كان بسيطاً، من أشكال الإدارة لتسيير الحياة اليومية بمعزل عن بقية أرض فلسطين، وبالتحديد الضفة الغربية.
وهذا واضح تماماً في الوقائع الجارية اليوم في القطاع حيث الخدمات والتعليم والصحة والإنتاج في أسوأ المستويات، فضلاً عن تحوُّل القطاع نفسه إلى سجن كبير جراء الحصارين؛ الإسرائيلي من الشمال، والتعنت المصري عند معبر رفح في الجنوب. وتحوم في أجواء الكلام السياسي الإسرائيلي على مستقبل قطاع غزة أفكار كثيرة، لكن بعضها يكاد يقارب الأوهام. لكن، مَن يدري؟ فقد تصبح الأوهام واقعية تماماً في مسار التدهور العربي المتسارع.
ومن هذه الأفكار توسيع مساحة قطاع غزة شرقاً وجنوباً بحيث يصبح هو الدولة الفلسطينية المقترحة، وتُلحق الضفة الغربية بالأردن بإحدى الصور السياسية الممكنة. وتلحظ خطة يئير هيرشفيلد وعتنائيل شنلر إلحاق منطقة حالوتسا بقطاع غزة، ومنطقة المثلث بالضفة الغربية، وتنال إسرائيل في مقابل ذلك مناطق الاستيطان الرئيسة كلها.
أما أكثر الخطط الإسرائيلية تداولاً فهي خطة غيورا أيلاند، وهو رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، التي عرضت، أول الأمر، في مؤتمر هيرتسيليا (13/12/2004) وتنص على ما يلي:
"1- تمنح مصر قطاع غزة مساحة من سيناء تبلغ نحو 600 كلم2 على امتداد الحدود مع مصر بطول 60 كلم وعرض 10 كلم.
2- تحصل مصر على منطقة بديلة في النقب (200 كلم2) هي وادي فران مع طريق يربطها بالأردن، ويخضع للسيادة المصرية.
3- يستعيد الفلسطينيون الجزء الأكبر من أراضي الضفة الغربية (نحو 69%)، ويضم الباقي إلى إسرائيل.
4- يُمنح الفلسطينيون ميناء بحرياً في غزة ومطاراً بالقرب من رفح".
مثلما أن الفقر يورث الشقاق والشقاء، فإن استعصاء الحلول السياسية للقضية الفلسطينية أورث الجميع، فلسطينيين وإسرائيليين، كثرة الكلام والأوهام. وتبدو بعض "الخطط" الإسرائيلية المتداولة في شأن مستقبل الكيان السياسي الفلسطيني كأنها نوع من التمارين الذهنية، ولا علاقة لها بالواقع على الإطلاق.
غير أن ما يجري في المشرق العربي، خصوصاً في سورية والعراق، يجعل إمكانية انقلاب الأوهام وخيالات الأذهان إلى وقائع جارية أمراً شديد الإمكان والاحتمال. وهذا هو الخطر الحقيقي اليوم على قطاع غزة والضفة الغربية وقضية فلسطين.