12 يوليو 2018
غدا تكبرين وتنسين
خولة أبو سعدة (سورية)
يوم الاثنين الساعة الثالثة عصراً من شتاء 1988، كنّا قد أنهينا تناول الغداء، ونستعد لشرب الشاي، بدأنا اللعب، أخي وأنا، لم نكن يوماً أولاداً متهوّرين، إلا أنّ كأس الشاي الأحمر المغلي الخاص بوالدي، الموضوع على حافة المدفأة باغتنا، وتسلّل كاملاً إلى ظهري. لم تحمني طبقات الملابس التي حرصت أمي على تدثيري بها، فقد كان دقيقاً وموّجهاً لحرقي. لم أفعل شيئاً سوى البكاء، بكيت مثل جميع الأطفال الذين تتساقط دموعهم من الدلال أو الألم، لا فرق إنّها دموع تلمعُ بها عيونهم وتُغيّر ملامح وجوههم، ربما تتساقط من جهلهم بما حلَّ بهم، تمّت معالجتي وتوّقف الألم وتوقفت عن البكاء، وكانت كلمات أمي الرقيقة "بوكره بتكبري وبتنسي" ترافقني في تلك الساعات.
في المساء، عاد والدي مُمسكاً بطبق المدلوقة (الكنافة بالقشدة)، ونادى علينا لنأكل سويةً وننسى الحرق، فعاودت البكاء مجدّداً، أبي يجهل ما أحبُّ وأكره؛ أبي لا يهتم لأمري، ضمّتني أمي وهمست "بكره بتكبري وبتنسي"، متى سأكبر يا أمي؟ ربما عندما تصبحين في الثلاثين، توقفت حينها عن البكاء، وبدأت أحسب الزمن الباقي لبلوغي الثلاثين.
كانت تلك الجملة من اختراع أمي للتعامل مع حساسيتي الزائدة، ودموعي التي لا تحتاج إلى إثارة بالغة، لتنفتح مثل صنبور المياه، لم تكن جملتها متسقةً مع مجتمعنا الدمشقي الذي كان يستخدم جملة "بلعها"، أي أن يبلع الطفل بكاءه، وخصوصاً بكاء الدلال. وبهذا، ينشأ الدمشقي قادراً على امتصاص الحزن، وإعادة تشكيله بما يتناسب مع ما حوله، متجاهلاً ذاته؛ أما أمي العراقية الأصل فهي رقيقة، إلى درجة أنّها لا تقوى على أن تخبر طفلتها يوماً أن تمتص حزنها، فاستبدلتها بجملة تمنحني الأمل بأن الزمن كفيل بمسح الحزن فلا أهتم. رافقتني هذه الجملة، كعشبة سحرية لمداواة أوجاعي الجسدية والنفسية.
أصبح عمري ثلاثين عاما، إنّه عمر النسيان وفقاً لرواية أمي، فجلست بانتظاره؛ أنظر إلى السقف؛ أشاهد التلفاز؛ أخرج مع الأصدقاء؛ أعمل؛ أدرس؛ أكتب؛ لكنه لا يأتي. قرّرت ألا انتظره، ربما إذا نسيته سيذكُرني ويأتي، ولكني فشلت كلياً في نسيان أي شيء، أذكر التفاصيل، الألوان، الأصوات، الروائح، وحدتي، عزلتي وخذلان الأصدقاء والأحباب؛ حتى وقوعي المتكرّر في الشارع، وكأنّ هذه الذاكرة لعنة تطاردني.
كبرتُ يا أمي، ولا أقوى على نسيان شيء؛ فاجأني صوت الرصاص، حاولت تقليص حجمي، تمنينا ارتداء قبعة الإخفاء، ربما نجوت، غداً أنا أكبر إذاً سأنسى؛ سمعت صوت الإنفجار، ركضت في أرجاء المنزل، اختبأت، نجوت ربما، وأنا أهمس سأكبر، سأنسى، تلتها القذائف التي لن يكون لها مكان إلا أن تستريح في قلبي، حاولت الإحتماء بحائط لا يملك سوى أن يقع، نجوت ربما؛ سأكبر، سأنسى؛ هدير الطائرات، أقفز، أصرخ، أنزح مبتعدة عن المكان، ربما نجوت، سأكبر سأنسى.
النقرّ على باب المنزل، قلبي يدق سريعاً، إنّه الموت من يقرع الباب، سأفتح الباب للنسيان المُنتظر، وعندها فقط سأكبر وسأنسى يا أمي.
في المساء، عاد والدي مُمسكاً بطبق المدلوقة (الكنافة بالقشدة)، ونادى علينا لنأكل سويةً وننسى الحرق، فعاودت البكاء مجدّداً، أبي يجهل ما أحبُّ وأكره؛ أبي لا يهتم لأمري، ضمّتني أمي وهمست "بكره بتكبري وبتنسي"، متى سأكبر يا أمي؟ ربما عندما تصبحين في الثلاثين، توقفت حينها عن البكاء، وبدأت أحسب الزمن الباقي لبلوغي الثلاثين.
كانت تلك الجملة من اختراع أمي للتعامل مع حساسيتي الزائدة، ودموعي التي لا تحتاج إلى إثارة بالغة، لتنفتح مثل صنبور المياه، لم تكن جملتها متسقةً مع مجتمعنا الدمشقي الذي كان يستخدم جملة "بلعها"، أي أن يبلع الطفل بكاءه، وخصوصاً بكاء الدلال. وبهذا، ينشأ الدمشقي قادراً على امتصاص الحزن، وإعادة تشكيله بما يتناسب مع ما حوله، متجاهلاً ذاته؛ أما أمي العراقية الأصل فهي رقيقة، إلى درجة أنّها لا تقوى على أن تخبر طفلتها يوماً أن تمتص حزنها، فاستبدلتها بجملة تمنحني الأمل بأن الزمن كفيل بمسح الحزن فلا أهتم. رافقتني هذه الجملة، كعشبة سحرية لمداواة أوجاعي الجسدية والنفسية.
أصبح عمري ثلاثين عاما، إنّه عمر النسيان وفقاً لرواية أمي، فجلست بانتظاره؛ أنظر إلى السقف؛ أشاهد التلفاز؛ أخرج مع الأصدقاء؛ أعمل؛ أدرس؛ أكتب؛ لكنه لا يأتي. قرّرت ألا انتظره، ربما إذا نسيته سيذكُرني ويأتي، ولكني فشلت كلياً في نسيان أي شيء، أذكر التفاصيل، الألوان، الأصوات، الروائح، وحدتي، عزلتي وخذلان الأصدقاء والأحباب؛ حتى وقوعي المتكرّر في الشارع، وكأنّ هذه الذاكرة لعنة تطاردني.
كبرتُ يا أمي، ولا أقوى على نسيان شيء؛ فاجأني صوت الرصاص، حاولت تقليص حجمي، تمنينا ارتداء قبعة الإخفاء، ربما نجوت، غداً أنا أكبر إذاً سأنسى؛ سمعت صوت الإنفجار، ركضت في أرجاء المنزل، اختبأت، نجوت ربما، وأنا أهمس سأكبر، سأنسى، تلتها القذائف التي لن يكون لها مكان إلا أن تستريح في قلبي، حاولت الإحتماء بحائط لا يملك سوى أن يقع، نجوت ربما؛ سأكبر، سأنسى؛ هدير الطائرات، أقفز، أصرخ، أنزح مبتعدة عن المكان، ربما نجوت، سأكبر سأنسى.
النقرّ على باب المنزل، قلبي يدق سريعاً، إنّه الموت من يقرع الباب، سأفتح الباب للنسيان المُنتظر، وعندها فقط سأكبر وسأنسى يا أمي.