ربما بفضل السينما، ونجاح عدد من الأفلام، بات تاريخ العلوم أقرب للتداول العام. يمكن من خلال استعراض قائمة هذه الأفلام، والسير التي تعرضها من أرسطو إلى أينشتاين، أن نعيد تركيب جزء كبير من تاريخ العلوم.
هذه المهمة يتصدّى لها أيضاً مجال معرفي، هو الإبستيمولوجيا، وإذا كانت في السينما تقوم على ظواهر الأشياء وصورتها، فتقحم فيها غالباً قصص الحب والبطولات الوطنية، فإنها في الإبستيمولوجيا تتحوّل إلى عملية رصد دقيقة للأفكار في كتابات العلماء، ومن ثم تحاول إعادة بناء صيرورتها في أذهانهم.
"تنصّب الإبستيمولوجيا ذاتها مُحكّمة للعقل البشري"، هكذا يقول الإبستيمولوجي التونسي حمادي بن جاب الله (1950)؛ إنها مجال فلسفي يجعل من العلم موضوعاً تاريخياً من أجل معرفة الكيفية التي بها تكوّنت روحه أو أحد مفاهيمه، باعتبار أن لا شيء يسمح عملياً بتقييم مضمون العلم الحديث والكشف عنه سوى تحوّلاته.
ضمن هذه المساحة، يتحرّك كتابه "تكوّن مفهوم القوة في الفيزياء الحديثة" والذي كتبه بالفرنسية ونشره سنة 2000، فيما صدرت نسخته العربية مؤخراً عن "المركز الوطني للترجمة" في تونس، والتي أنجزها إبستيمولوجي تونسي آخر هو عبد الكريم العبيدي (1950).
يقتفي الكتاب أثر التاريخ المبكّر للفيزياء الحديثة، واضعاً بدايات تمثُّل "مفهوم القوة" خارج المنظور التقليدي، خصوصاً وأن "الأمر يتعلق بشيء أصبح بسعة تطبيقاته وعمق انخراطه في حياة البشر يحدّد عملياً مصير العالم".
يعود بنا بن جاب الله إلى بدايات القرن السابع عشر، تحديداً إلى ما يدور في ذهن العالم الإيطالي غالياليو غاليلي (1564 - 1642)، وهنا يطرح تساؤلاً "كيف يمكن لخطاب فلسفي أن يأوي مفهوماً لم يعد إلا رمزاً ضمن شبكة من العلامات محكمة البناء حريصة على تناسقها الداخلي واثقة تمام الثقة في لغتها؟".
يشير المؤلف إلى أن مفهوم القوة، بدقة مضمونه وصرامة محتواه، أصبح مما لا يستقيم معه أي استجلاء للمقاصد والنوايا ذلك أن جاهزيّته وإجرائيّته تجعلانه في حِلّ من كل رابط يشدّه إلى الوقائع الفردية التي يكون اشتق منها يوماً.
نقطة البداية في عمل بن جاب الله هي صدور كتاب "الرسول السماوي" لغاليلي، والتي يسوق معها ملاحظة بأن "لا شيء في حياة غاليلي العلمية كان ينبئ بهذا الحدث"، وهو العالم الذي كان منشغلاً بعلم الثبوتيات (الستاتيكا) وقيس الزمن والتحصينات، وهي مواضيع مكّنته من حظوة بين معاصريه.
كان غاليلي، حتى صدور "الرسول السماوي" متمسّكاً بالصمت في أمور الفلك، وهو صمت طالما حيّر مؤرّخي العلوم. يحيل بن جاب الله هنا القارئ إلى رسالة من غاليلي إلى العالم الألماني كبلر يقول فيها "تبدو الأفكار التي قدّمها كوبرنيك قادرة على شرح ظواهر طبيعية بقيت غامضة داخل الفرضية المتداولة القائلة بمركزية الأرض. لقد صغت في الموضوع بعض البراهين وأشكال من الدحض لم أتجاسر إلى اليوم على نشرها. أقعدني ذلك المصير الذي لقيه أستاذنا كوبرنيك إذ لم تحصّنه الشهرة الأبدية التي حازها لدى البعض، من سخرية جموع القرّاء لفرط عدد الحمقى بيننا".
يمثل العالم الإيطالي لحظة تاريخية حاسمة بسبب كونه وحّد العالم، أي أنه ربط بين عالمَيْ السماء والأرض حين قال بثبات قوانين الطبيعة هنا وهناك. ولعله لم يكن يبلغ ذلك لولا أنه أمسك بتجربة، من خلال تطويره عدسة المقراب، والذي أظهر له أن الكواكب ليست كرات سماوية بل إنها تحتوي على تضاريس (يمكن قياس ارتفاعها وعمقها) تماماً كالأرض.
غير أن هذا الإنجاز لم يكن حاسماً في البداية سوى في عقل غاليلي، وقلة معه، إذ أن بقية الجماعة العلمية (الفضاء الذي يدور فيه الجدال العلمي) لم تكن مهيئة لهذا المنظور الجديد، فتمسّكت بتنزيل التجربة منزلة الظاهر ليس إلّا.
أمام هذا الوضع، فهم غاليلي أن "الأثر القوي للماقبليات الثقافية لدى خصومه سيظل يحملهم على تكييف ظواهر الطبيعة حتى تتوافق مع آرائهم الراسخة". هكذا كان عليه أن يثبت بالقول البرهاني إلى أن ما اهتدى إلى اكتشافه موجود فعلاً.
وهذه قفزة في تاريخ العلم، فقد فهم غاليلي أن ما وصل إليه يقتضي من أجل تعميمه إصلاحات على المستوى النظري أي إنه ينبغي عليه أن يؤثّر على مسلّمات علم عصره وبناء "رؤية جديدة للعالم" أو بعبارة الكاتب "إصلاح بنية الذكاء"، وهكذا تحوّل مشكل توحيد العالم إلى مشروع أنطولوجي شاسع.
يسجّل لنا بن جاب الله مقولة أخرى لغاليلي "كيف يمكن أن تفتح الأبصار على ما يجب رؤيته بالنسبة إلى أولئك الذين لا يريدون رؤيته؟". هنا يفتح الكاتب باب التأويلات الفكرية، إذ يرى أن هذا الوضع يبيّن أن "المنطق المتحكم في بروز مستجدات العلم هو نفسه المتحكم في كيفيات تقبلها"، ليقول بـ "وجود تطوّر لا متكافئ للعلوم" في العقول البشرية ضمن عصر واحد، وخصوصاً بين العلوم نفسها، حيث أن "حقيقة السماء" لم تكن لتُعرف لولا تطوّر علم البصريات.
حين اكتمل مشروع "توحيد العالم"، بات ممكناً ميلاد النزعة الميكانيكية التي سيولد داخلها مفهوم القوة. إن مماهاة الواقع بالمعقول، قد فتح مسرباً للعقول، إذ صار ممكناً الاستنتاج وبالتالي التوقّع، وهذا الوضع الجديد فرض تغييرات على المفاهيم العلمية ومن بينها إرساء تناسب جديد بين القوة والحركة بدل علاقة التناسب المباشر التي كانت قائمة بينهما، وهو ما لم يكن ممكناً إدراكه بسبب التمسّك المفرط بأرسطو.
ينتقل بن جاب الله في بقية الكتاب إلى أعمال غاليلي الموالية، قارئاً في انتقاله للكتابة من اللاتينية إلى الإيطالية نزعته لـ "دمقرطة الكون"، من خلال مخاطبة أكبر عدد من القراء، ولكن استراتيجياً من أجل تحرير العلم الجديد من العلم القديم.
يختم بن جاب الله بأن "عالم غاليلي الذي وقع توحيده وإعادة مركزته ليس بعد الكون المفتوح"، مشيراً إلى أن انتصاره في معركته مع "الجماعة العلمية" لعصره، ستقوده إلى صراع جديد (مع ديكارت)، وهو سجال سيكون له هو الآخر أثره في تطوّر العلم.
اقرأ أيضاً: الفلاسفة والحب: رجال خائبون في مأدبة الحواس