لم ينفصل الروائي الأردني غالب هلسا (1932 - 1989) في جميع صنوف كتابته الإبداعية والنقدية والفكرية عن واقعه الذي اشتبك معه كاشفاً عن العقد والرواسب التي يعيشها الفرد العربي ضمن صراعه مع السلطة في وجوهها المتعدّدة، إلى جانب تمرّده الدائم على السرد وأدواته وشكله التقليدي.
ورغم أنه، وفي جميع الأماكن التي عاش فيها، بدءاً من عمّان ومروراً بالقاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، كانت كلمته الصادقة والعميقة في مقالاته وأحاديثه سبباً في طرده منها أو عدم احتماله - على أقل تقدير-، بما يحيل إلى وضوح الموقف وتماسك الرؤية، إلا إنه كان مرتاباً ومتردداً بخصوص نشر مؤلّفاته التي تفصل سنوات بين كتابة نصّها الأصلي وتاريخ صدورها.
وسيكون الحال أكثر تعقيداً مع القصة القصيرة التي بدأ من خلالها رحلته الإبداعية منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، لكنه لن يتحمّس لها مثل حاله مع الرواية، وبدت من وجهة نظره - بحسب بعض من عرفوه - تنزع نحو لغة تهيمن عليها العواطف والمجازات، الأمر الذي خالفه كلّ من قرأها لاحقاً وأشار إلى اتصالها الوثيق بعوالمه الروائية على صعيد بناء الشخصيات ونسج علاقاتها وحتى تقنيات كتابتها.
تحضر هذه الخلفية مع صدور الطبعة الأولى من "القصص الكاملة" لهلسا عن "دار أزمنة" في عمّان حديثاً، والتي تضمّ مجموعتي "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" و"زنوج وبدو وفلّاحون"، مسبوقة بدراسة تمهيدية للناقد الفلسطيني فيصل درّاج.
ويفيد التذكير أيضاً أن مجموعته الأولى كان قد كتبها بعد انتقاله إلى مصر سنة 1955، لكنها ستصدر بعد حوالي ثلاثة عشر عاماً، والتي سيعتبرها نجيب محفوظ أفضل نتاج لعام 1968، وانتهى من مجموعته الثانية عام 1957، وستبقى حبيسة الأدراج حتى سنة 1976، ولن تصدرا في طبعات أخرى حتى مطلع الألفية الثالثة.
قد يشكّل جمع العملين في مجلد واحد فرصة لتأمّل سرده القصصي الذي لم يحظ بالاهتمام ذاته الذي ناله في الرواية، إلا في كتابات قليلة أشارت إلى أسلوبه في تقطيع النص إلى فصول قصيرة بحيث تقترب قصة "زنوج وبدو وفلاحون" التي تحمل المجموعة الثانية عنوانها من "النوفيلا" بشخصياتها المتعددة وتحرّكها داخل مستويات مركّبة، وتناول الحدث من أكثر من منظور.
ونلفت أيضاً إلى أن القاهرة تشكّل العالم الذي ينسج منه نصوص المجموعتيْن، ما عدا ثلاثة نصوص سيعود فيها إلى مكانه الأول؛ قرية ماعين بالقرب من مدينة مادبا الأردنية، وهي: "وديع والقديسة ميلادة" و"البشعة" و"زنوج وبدو وفلاحون"، وهما المكانان اللذان سيتمحور حولهما نتاجه الروائي كلّه باستثناء "ثلاثة وجوه لبغداد".
إصدار "القصص الكاملة" يأتي ضمن مشروع تبدأه "دار أزمنة" العام الجاري بمناسبة مرور ثلاثة عقود على رحيل هلسا، إذ تُعدّ كتاباً يتضمّن جميع المقالات النقدية والسجالات ومراجعات الكتب والكتابات التي لم تُنشر له من قبل في كتاب.
في دراسته، يشير درّاج إلى أن هلسا "انتمى إلى قلَّة تنتج نصوصها تصوراً للعالم، متوسلاً تقنية كتابية تتكئ، ظاهرياً، على موضوع يومي تغيّره الإشارات والجمل المتقطعة والمترابطة، وتداخل الأزمنة، ونثر "مفاجئ"، ينوس بين الشعر والفلسفة. كان يكتب عن المعيش وهو يسائله، منتقلاً من الظاهر إلى الخبيء، ويسائل قلقه وهو يسرد حكاية يومية، لا تثير القلق".
ويرى أن "كتابة غالب تنطوي على نصّين: نصّ أول قوامه عوالم إنسانية تثير الأسى والغضب، ونصّ محتجب يرسم ملامح فنان مغترب هو: غالب هلسا. يستظهر اغتراب الأخير فـي ثنائيات كتابية متعددة: الأم والغربة، القرية والمدينة، الطفولة وما يتلوها، المراقِب والمراقَب، حب المرأة وجسد المرأة، الفضيلة والدنس، والكتابة واللغة. تستظهر اللغة فـي النصوص فعلاً قاهراً، مطارِداً مطارَداً، معبّراً بلا أقنعة عن "معاناة الخلق"، التي تحوِّل "العالم" إلى عوالم، واللفظة البسيطة الجاهزة إلى كلمة محتملة".
على غلاف الكتاب، اقتبست مقاطع من حوار أجراه معه القاص يوسف ضمرة ونُشر في كتاب "المغترب الأبدي يتحدّث" (2004)، يقول هلسا في واحد منها: "إنني أخجل من التعبير عن نفسي بوضوح، والأغلب أن هذا هو السبب في أنني لم أنشر أعمالي إلّا بعد كتابتها بفترة طويلة جداً. كان اكتشاف الذات بالنسبة لي نوعاً من الفضيحة...".