قفز الشرق السوري إلى واجهة الأحداث مرة أخرى، عقب ضربة من "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لمليشيات بعضها إيرانية تساند قوات النظام، حاولت التقدّم إلى مناطق تقع تحت سيطرة قوات تساندها واشنطن في ريف دير الزور الشمالي الشرقي، وهو ما يؤكد عزم واشنطن على منع النظام وحلفائه من تجاوز خطوط حمراء وُضعت في منطقة غنية بالنفط وتتمتّع بموقع استراتيجي قرب الحدود العراقية، أصبحت منطقة نفوذ أميركي بلا منازع. وحاولت مليشيات أفغانية وإيرانية ومعها عناصر سورية موالية غير نظامية، تغيير معادلة الصراع في الشرق السوري، من خلال الاقتراب من منطقة نفوذ أميركي، في مسعى لاختبار الحزم الأميركي والبناء على نتائجه، ولكن ردّ واشنطن المباشر كان رسالة واضحة أنه لم يعد مسموحاً للإيرانيين تجاوز الحدود المرسومة لهم في صراع معقد، خيوطه متشابكة، ويتجه نحو التأزيم، في وقت لامت روسيا، رغم إدانتها للضربة، حلفاء النظام على "عدم تنسيق تحركاتهم معها"، فيما بدا وكأنّ الغارة كانت ضربة أميركية ضدّ إيران بعِلْم روسي مسبق.
ونقلت وكالة "رويترز" عن مسؤول أميركي، قوله إن "أكثر من 100 عنصر من مليشيات تساند قوات النظام قُتلوا، بعد أن أحبط التحالف بقيادة الولايات المتحدة وقوات محلية مدعومة منه، هجوماً كبيراً ومنسقاً على ما يبدو في وقت متأخر يوم الأربعاء وصباح الخميس". وقال المسؤول إن عدد المشاركين فيه "بلغ نحو 500 مقاتل، مدعومين بالمدفعية والدبابات وأنظمة صواريخ متعددة الفوهات وقذائف مورتر"، مشيراً إلى أنه "لم يقتل جنود أميركيون، أو يصابوا في الواقعة، وفقاً للمسؤولين".
وأضاف المسؤول: "نشتبه أن قوات موالية للنظام السوري كانت تحاول السيطرة على أراض حررتها قوات "سورية الديمقراطية" (قسد) من داعش في سبتمبر/أيلول 2017"، موضحاً أن "القوات كانت على الأرجح تسعى للسيطرة على حقول نفط في خوشام، كانت مصدراً مهماً للإيرادات لداعش ما بين 2014 و2017".
وأشار المسؤول الأميركي إلى أنّ التحالف "نبّه المسؤولين الروس بشأن وجود قوات سورية الديمقراطية في المنطقة قبل الهجوم الذي جرى إحباطه بفترة طويلة"، موضحاً: "مسؤولو التحالف كانوا على اتصال بانتظام مع نظرائهم الروس قبل وأثناء وبعد إحباط الهجوم".
وذكرت مصادر محلية أن قوات النظام استهدفت، الأربعاء، بقذائف المدفعية والصواريخ، مواقع تسيطر عليها قوات "سورية الديمقراطية" بالقرب من حقل غاز "كونيكو" وقرية جديد عكيدات في ريف دير الزور، وأن تلك القوات ردّت على القصف واستهدفت دبابة لقوات النظام. وأشارت المصادر إلى أنّ طائرات "التحالف الدولي" تدخّلت، واستهدفت مواقع للنظام قرب قرية الدحلة، بينما قصفت قوات التحالف المتمركزة في حقل "العمر" النفطي مواقع النظام في بلدتي خشام ومراط بريف دير الزور. وذكرت مصادر محلية لـ "العربي الجديد" أن "عدد القتلى أكثر من 150، جلهم ليسوا سوريين وينتمون إلى مليشيات إيرانية وأفغانية لها غرفة عمليات خاصة في ريف دير الزور الشرقي"، مشيرةً إلى أن للروس مراكز عدة في ريف دير الزور الشرقي، أبرزها في بلدة الصالحية. ورجّحت المصادر "علم الجانب الروسي بالضربة".
والضربة الأميركية لمليشيات تساند النظام السوري ليست الأولى من نوعها، إذ سبق لطيران التحالف أن استهدف قوات تتبع للنظام حاولت العبور إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات في خضم المعارك ضد تنظيم "داعش" في دير الزور.
وتتقاسم قوات "سورية الديمقراطية" التي تشكّل الوحدات الكردية قوامها الرئيسي، من جهة، وقوات النظام السوري، من جهة أخرى، السيطرة على محافظة دير الزور، حيث تفرض "قسد" سيطرة على ريف دير الزور شمالي النهر وشرقه وصولاً إلى الحدود الجغرافية مع العراق، فيما يفرض النظام ومليشيات إيرانية سيطرة على مدينة دير الزور وريفها الواقع جنوب النهر وغربه. ولا تزال هناك جيوب صغيرة لتنظيم "داعش" في ريف المحافظة، ولكنها لا تشكّل خطراً مباشراً على القوتين في المحافظة المترامية الأطراف والتي تبلغ مساحتها نحو 33 ألف كيلو متر مربع.
ويعد الريف الذي تسيطر عليه "سورية الديمقراطية"، التي باتت ذراع الولايات المتحدة البرية في سورية، هو الأغنى والأهم، إذ يضم كبرى آبار ومحطات تجميع النفط والغاز في سورية، والتي سيطرت عليها "سورية الديمقراطية في الأشهر الأخيرة من العام الفائت، وأبرزها حقول "كونيكو" و"العمر" و"التنك" الذي يعدّ من أكبر الحقول في سورية بعد حقل "العمر"، إضافة إلى حقول أخرى.
ولم يتأخّر الرد الروسي على الضربة الأميركية، واصفاً إياها بـ"عدوان لا سابق له". وأشار النائب الأول للجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فرانس كلينتسيفيتش، لوكالة "إنترفاكس" الروسية، إلى أن "أعمال التحالف الدولي لا تتفق مع القواعد القانونية ولا شكّ في أنها عدوان"، لافتاً إلى "أنّ الأميركيين لم يقوموا بأعمالهم في سورية سابقاً بشكل مكشوف لهذا الحد"، غير أنه أكّد أنه لا يرى خطراً من وقوع مواجهة عسكرية مباشرة بين "التحالف الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة من جهة، والقوات الروسية المرابطة في سورية من جهة أخرى. وقال المسؤول الروسي، إن وجود الولايات المتحدة في سورية "غير شرعي"، مضيفاً أن "الخبراء الأميركيين يشاركون في أعمال الوحدات المختلفة بما فيها الإرهابية".
كذلك، علّقت وزارة الدفاع الروسية على العملية، وقالت في بيان: "لقد أظهرت الحادثة مرة أخرى أن الغرض الحقيقي من استمرار الوجود غير القانوني للقوات الأميركية في سورية ليس القتال ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، وإنما الاستيلاء والسيطرة على الأصول الاقتصادية، التي تعود ملكيتها للجمهورية العربية السورية فقط"، مشيرةً إلى أن ضربة التحالف الدولي "أسفرت عن إصابة 25 مقاتلاً موالياً للحكومة السورية". ولفتت الوزارة في بيانها إلى أنّ "عدم تنسيق القوات الموالية للجيش السوري تحركاتها الاستطلاعية مع روسيا، كان سبباً لوقوع حادث قصف التحالف لهذه القوات"، معلنةً أن القيادة الروسية في قاعدة "حميميم" الجوية، أجرت من خلال القنوات القائمة، محادثات مع ممثلين عن مقر التحالف الدولي بعد الضربة الأميركية.
من جانبها، وصفت وكالة "سانا" التابعة للنظام، الضربة الأميركية بـ"عدوان جديد"، قائلةً إنها "محاولة لدعم الإرهاب"، وأن الضربة "استهدفت قوات شعبية تقاتل إرهابيي داعش ومجموعات "قسد" في ريف دير الزور. وقالت الوكالة، أمس الخميس، إن قوات التحالف "اعتدت" منتصف ليل الخميس على "قوات شعبية" بين قريتي خشام والطابية بريف دير الزور الشمالي الشرقي، مشيرةً إلى مقتل العشرات من هذه القوات.
وجعلت واشنطن من نهر الفرات في دير الزور حداً لا يُسمح للنظام وحلفائه بتجاوزه، ما يؤكد نيّة وزارة الدفاع الأميركية ترسيخ وجود أميركي في منطقة مترامية الأطراف غنية بالنفط وتتمتع بموقع استراتيجي على الحدود الغربية للعراق. ومن الواضح أن واشنطن أرسلت تنبيهاً مزدوجاً للروس، والإيرانيين، يضع حداً نهائياً لمحاولات تغيير خارطة النفوذ في شرقي سورية، وخصوصاً أن المساعي الإيرانية لفرض سيطرة كاملة على دير الزور لم تعد خافية، حيث تحاول طهران ترسيخ نفوذها في منطقة تسمح لها إنشاء طريق بري طويل يبدأ من طهران وينتهي في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما تحاول واشنطن منعه.
وتنتشر في ريف دير الزور، وخصوصاً في مدينة البوكمال، مليشيات إيرانية عدة، منها "فاطميون" و"زينبيون"، إضافة إلى "حزب الله". وبات ريف دير الزور الشرقي، جنوب نهر الفرات، شبه خالٍ من سكانه الذين اختاروا النزوح إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات "سورية الديمقراطية" بسبب مخاوف من عمليات انتقامية تقوم بها قوات النظام ومليشيات إيران.
وباتت "قسد" تسيطر على جلّ المنطقة الواقعة شرقي نهر الفرات وشماله، ما يشكّل نحو ربع سورية الذي يضمّ أغلب ثروات البلاد المائية والنفطية والزراعية، فضلاً عن ثلاثة سدود على نهر الفرات هي الأكبر والأهم في سورية. ولا يزال النظام يحتفظ بوجود رمزي في محافظة الحسكة شمال شرقي البلاد، فيما تسيطر الوحدات الكردية على أغلب المحافظة بما فيها حقول نفط كبرى. كما تسيطر "قسد" على مدينة الطبقة وريفها الشرقي الواقع جنوب نهر الفرات الذي حاولت قوات النظام أواخر العام الفائت التقدّم باتجاهه، ولكن طيران التحالف الدولي أوقفه، ولم تحاول مرة أخرى.
وعقب الضربة الأميركية الأخيرة، ليس من المتوقّع أن يحاول النظام وحلفاؤه مرة أخرى الاقتراب من المناطق التي تسيطر عليها قوات "سورية الديمقراطية"، التي تخطط كما يبدو لإرساء دعائم إقليم ذي صبغة كردية في منطقة يعتقد مراقبون أنها تشكل "سورية المفيدة"، وهو ما يُبقي الصراح مفتوحاً، خصوصاً أنّ تركيا تعتبر هذه الخطوة من "المحرمات" بالنسبة لها.
وتبدو المعارضة السورية هي الغائب الأكبر عن شرقي سورية، بعدما أبعدت واشنطن كل فصائل المعارضة عنه، مكتفية بوجود "قسد" التي باتت تشعر أنها "محميّة" من قبل التحالف الدولي في شرقي الفرات وشماله على الأقل في الوقت الراهن.