عِرق نادر بالأسود والأبيض

24 سبتمبر 2015
بول كوزنسكي / بولندا
+ الخط -

تمنحك أيام زمان، كما تعرض أفلامها بعض القنوات الفضائية، متعة إذا كنت ممن شهد تلك الأيام، أما إذا كنت ممن ولدوا في مغطس الأيام الحاضرة، فسيكون الاستغراب نصيبك أو الدهشة على الأقل. شخصياً أشعر بالمتعة لأنني على الأقل شهدت طرفا من تلك الأيام، ويرافق المتعة فضول معرفي حين أقارن بين أفلام تلك الأيام وأغانيها وما يحدث حالياً.

قبل أيام شاهدت فيلماً من تلك الأيام وقد تم "تلوينه" بوسائل اخترعت لإضفاء المتعة اللونية على تلك المشاهد التي لم تعرفها أجيالُ الماضي، فقضت أيامها بين الأسود والأبيض. بالطبع لم يكن لدى تلك الأجيال شعورٌ بنقص ما، لأن طبيعة الأمور كانت "تبدو" هكذا دائماً، وليس الأمر كذلك معنا في الوقت الراهن حيث يعتبر استخدام الأسود والأبيض فقط أمراً غريبا وقد يكون مستهجنا.

هذا أول درس في النسبية لمن استعصى عليه فهم النسبية، وأول درس في "تفّهم" الآخر وطرائق تفكيره، وعدم السماح لضيق الأفق بشطب أعمال الماضي لأنها لم تجر في المجرى الذي نألفه الآن. ومع ذلك هناك شيء في أغاني أيام زمان وأفلام أيام زمان يكشف عن عمق التردي الروحي الذي تغرق فيه أيام الحاضر، وهو أن وراء العمل الفني آنذاك وقفت قيم مختلفة: كان العمل الفني أقرب إلى أن يكون عملا خالصاً لوجهه تعالى لا انتظاراً لثمرة أو مكسب.

لا أعني بهذا أن العمل الفني كان "دينيا" بل كانت توجهه نزاهة متجردة من أغراض الربح والخسارة، نحو الإجادة أو لا. لهذا لم يكن مستغربا أن "يضحي" صاحب العمل الفني في سبيل أن يرى الناس عمله، وكل متعته أو انتصاره أن ينجز هذا العمل بغض النظر عن الثمرات المرجوة.

في تلك الأيام لو قيل لفنان "خذ أجرك مقدماً ولا حاجة بنا لعملك" لرفض رفضاً قاطعاً. هذه فلسفة لم تكن جديدة في محيط الثقافة العربية، بل قديمة قدم روائع المعمار الأندلسي وتاج محل ومجلدات العلماء التي كانوا يعكفون على تأليفها سنوات طويلة، والتعليم المجاني الذي كان يتاح للقريب والغريب. وامتد هذا العرق النادر في جغرافية الحاضر القريب، وظللنا نشهد آثاره حتى خمسينات القرن الماضي.

هذه هي القيمة الروحية الثمينة في أعمال أيام زمان سواء جاءت ساذجة أو مستنيرة، ففي كلا الحالين كان المحرك واحداً؛ أن يتقن الإنسان عمله بغض النظر عن المكافأة أو الثمرة، أما اليوم، فقد توارت هذه القيمة، وأصبح العاملون في الفن وغيره على استعداد للتخلي عن أعمالهم لو أعطي الواحد منهم تجارة تمنحه دخلا أعلى وتوفر عليه تعباً لا يأتيه بالدنانير المرجوة.

دلالات
المساهمون