يصف هيغل أفريقيا كبلد الطفولة، وهو وصف قدحي. فالأمر يتعلق بطفولة أبدية، مجردة من كل عقل. وهي، لا ريب طفولة تحتاج لمن يقودها ويحكمها ويعلمها، بل إنه يعتبر الإنسان الأفريقي الأكثر وحشية ويجرّده من صفة الإنسانية.
إن هيغل يعلن في وقاحة بأنه لا يمكننا التماهي مع طبيعة الرجل الأسود كما لا يمكننا ذلك مع طبيعة كلب، وهو ما يجعله يدافع عن تحويل الأفارقة إلى عبيد في مستعمرات الأوروبيين، معتبراً أن حياتهم السابقة أكثر سوءاً من ذلك، بل لا يتوقف عن إلصاق كل الصفات السيئة بهم، ومنها أنهم يملكون طبيعة متطرفة.
ولو أمعن القارئ النظر بما كتبه هيغل عن الثقافات الأخرى، سينتبه إلى أن العقل الغربي يعود إلى هيغل دائماً حين يريد الإعلاء من ثقافته والحط من ثقافات الآخرين، فالصفات نفسها تتكرر على مرّ القرون؛ الحرية لهم والعبودية لنا، الانفتاح والتعدد عندهم والتطرف عندنا إلخ.. إنها عين هيغل الداخلية، أو تلك العين المحضة، التي تشكّلت في ظل الأحكام المسبقة، وترعرعت على السردية "المسيحية" الغربية ورضعت منها، تلك العين التي لا ترى العالم الخارجي إلا عبر داخلها وليس عبر العالم.
لقد تحدث روسو في كتابه "خطاب في أصل التفاوت بين البشر" عن فلسفة "لا تسافر"، وهي تلك التي تكتفي بترديد ما تقوله تجارب شخصية معينة، لترتفع بالخاص إلى مستوى النسق، كما فعل هيغل في حديثه عن الثقافات الأخرى. وكما كتب الباحث المغربي فوزي بوبية بحق، فإن هيغل اختار "سفر الفلسفة"، دون أن يقوم هو نفسه برحلة فلسفية. فلقد ظلّ مقيماً في برلين، لكنه أطلق روح (ه) العالم في كل القارات، ليخبرنا في نهاية الرحلة بما كان يعرفه أو يريده منذ بدايتها، وهو أن الشرق يمثل طفولة العالم واليونان القديمة شبابه والعالم الروماني كهولته، في حين يمثل العالم الجرماني شيخوخته.
والشيخوخة هنا، لا يفهمها هيغل كضعف أو قرب من النهاية، بل كنضج عقلي، أو كالنضج الأسمى. بل إن هيغل لن يتورع عن مناقضة أبحاث علمية علناً، ومنها تلك التي قدّمها فيلهلم فون هومبولت حول اللغة السنسكريتية، حتى يظلّ وفياً لتلك الأحكام التعسفية ـ والتي يسميها نظرية ـ التي أطلقها على الثقافة الهندية. سيكتب غوته في "فاوست" بأن النظرية رمادية، أما شجرة الحياة فخضراء.
وإذا قرأنا ما كتبه هيغل عن الإسلام، من أنه يشجع على التطرّف مثلاً، سنندهش كيف عمّرت تلك الأحكام المسبقة حتى اليوم، وكيف ما زالت سوق هذه الأحكام المسبقة أكثر من رائجة، رغم التنوير والحداثة، كما لو أن تاريخ روح العالم هو تاريخ إقصاء الغرب للآخر، سواء كان هذا الآخرآسيوياً أم أفريقياً أم أميركياً، بل لن تكلف هذه الروح نفسها عناء البحث عن أوصاف أخرى، متى تعلّق الأمر بآخر مختلف، فالآخر كالأنا، كلّي، مطلق ونهائي.