عولمة الحالة الثقافية.. الحرية حصن العرب الأخير

07 مايو 2015
+ الخط -

تعبّر العولمة عن نسق معرفي متكامل، فهي تلك المنظومة التي تلغي الحدود القطرية بين الدول، وتعمم نمطا واحدا للعيش. فنجدها في المجال السياسي تهدف إلى سيطرة القوى الغربية التقليدية على زمام الأمور من خلال المنظمات الدولية، مستعينة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ترصدها شبكة من المنظمات غير الحكومية، وفي المجال الاقتصادي تروّج لفكرة اقتصاد الرفاهية والسعادة في عالم أكثر من ثلاثة أرباع سكانه من الفقراء والمعوزين، مع ترسيخ رأسمالية الشركات متعددة الجنسيات التي تستحوذ على مقدرات الدول وتخلف أثرا ريعيا على المجتمعات. علاوة على ذلك، تعمل العولمة على المستوى الثقافي بغرض طمس الهويات وتمجيد خرافة المواطن الكوني العابر للقوميات والمتعايش مع التغيرات المتعددة في العالم من حيث التنافس، السرعة، التشبيك وانتشار تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بينما تنعت نفس المواطن في العديد من الأحيان بالمنتمي للعالم الثالث المتخلف.

على صعيد آخر، تعتبر الهوية مجموعة من الخصائص التي تستقل بها الذات، فهي دليل الانتماء والتعلق ببيئة اجتماعية وثقافية معينة، وانخراط في جماعة إنسانية تشكل نسيجا اجتماعيا يشترك أعضاءها في عدة طبائع كاللغة والثقافة والدين.

وفي سياق متصل، فالهوية الثقافية تجسيد لقيم وسلوكيات تمثل سمات حضارية وتظهر جليا في الشخصية الإنسانية. ومما يجب التوقف عنده، أن وظيفة الهوية هي خلق الانسجام بين سكان الوطن الواحد الساعين للحفاظ على صورة هذا الوطن والارتقاء به في سلم الأمم، بالإضافة إلى أن الهوية هي إكسير استمرارية الأمم، هذه الأخيرة التي تمر بامتحان عسير في ظل استفحال العولمة الثقافية، وما يترتب عنها من أخطار على بنية المجتمعات وهيكلة الدول عبر التأثير المباشر في روافد المجتمع الثقافية من عادات وتقاليد وكذلك في الأفراد باعتبارهم نواة المجتمعات.

يقصد بالهوية الثقافية وجود وكينونة الإنسان، وهنا، نستحضر الإنسان العربي المستهدف بحملات كثيرة، تهمّ على وجه التحديد الشباب العربي الذي يمثل ثلثي الديمغرافية العربية والمحرك لكل التطلعات الشعبية، فهو وقود التغيير ورائد الديناميكية المجتمعية. وعلى هذا النحو، تسعى العولمة الثقافية إلى الهيمنة على العقول العربية الشابة من خلال تسويق أفكار غربية وغريبة تحاول تنميط سلوكيات البشر ونشر ثقافة الاستهلاك.

وعلى هذا الأساس، نلمس تأثيرا واضحا للعولمة على الهوية الثقافية تتبين معالمه في التبادل غير المتكافئ بين المؤسسات الثقافية، حيث يكون تبادلا أحادي الاتجاه يمهد لغزو ثقافي يتغلغل في أواصر المجتمع ويفقد الإحساس بالهوية، فعلى سبيل المثال، نسجل حضورا وازنا للمراكز الثقافية الغربية ومدارس البعثات في الأقطار العربية في ظل غياب شبه كامل للمؤسسات العربية في الدول الغربية. على ذات المنوال، ما زالت الدول العربية تعاني من التبعية والاستعمار الثقافي، فالقوى الناعمة الغربية تنخر في الجسد العربي عبر تحويل الإنسان الغربي إلى قدوة خارقة في الاحترافية، الصرامة والإتقان يجب تتبع خطاها، فهو ذاك الإنسان التقدمي، الحداثي والناجح، وكذلك تصغير إمكانات الإنسان العربي عبر تبخيس جهوده وحصره في صورة نمطية ترسخها الحكومات العربية التي تعيّره بالفقر والجهل والمرض، وتقتل الأمل فيه عندما تصفه بأنه غير ناضج بعد للعيش في نظام ديمقراطي، وأنه غير قادر على الإنتاج والابتكار. وتؤكد هذه الصورة وسائل الإعلام والإنترنت، وكذلك الفنون، من موسيقى وسينما من خلال محو الشخصية الثقافية العربية والتشكيك بقيمتها، الأمر الذي من شأنه إفراز أزمة هوية ثقافية. ولم تعد تظهر أثر هذه العناصر فقط في تمرد الشباب على عادات المجتمع وضوابط الأسرة العربية، بل أصبحت متجلية في ازدياد الانعزال والأنانية ونكوص التضامن والتكافل المجتمعي فضلا عن تنامي العنف والجريمة.

وفي المقابل، تستوجب مواجهة العولمة تحديثا شاملا للثقافة العربية عبر الغوص في العقل العربي، وتقوية هويته من خلال رؤية رصينة ترفض العزلة والهيمنة الغربية، وتتمثل خطوطها الناظمة في ترميم الصفوف الداخلية من خلال إصلاح سياسي يحقق التحول الديمقراطي ويرفع من كرامة الإنسان العربي الذي يريد القطع مع ممارسات الماضي وبناء دولة القانون التي تشرك شبابها في صناعة القرار، ثم تطوير سياسات التكامل المشترك عبر تنسيق الجهود العربية في صياغة الخطط التنموية، دعم الأمن القومي العربي وإنشاء سوق عربية مشتركة تعزز المصلحة العربية المشتركة في ظل انتشار التجمعات الاقتصادية.

إن الحفاظ على الهوية الثقافية العربية رهين بضمان الحرية الثقافية المرتكزة على دعم حرية الفكر والرأي، ووضع استراتيجية جامعة ترصد الأثر العولمي، وتعمل على مواجهته بإعلام راق يساهم في تحسين وعي الشباب العربي وتوجيه طاقته لخدمة قضايا أمته، إرساء سياسة ثقافية للدول العربية ترتقي بالذوق العام وتروّج للثقافة العربية في المحافل الدولية من خلال تثمين الإنجازات العربية والتعريف بأمجاد الأمة، بالإضافة إلى ضرورة إصلاح التعليم والتصالح مع التكنولوجيا كسبيل لتطوير المناهج الدراسية والتربوية واستعمال التكنولوجيا في خدمة الهوية، بما يحقق للشباب العربي آماله وتطلعاته في إنجاز مهمته الحضارية والإنسانية التي ما فتئ يعبر عنها في حراك واسع ومستمر.


(المغرب)