"ضوّي يا هالقنديل ع بيوت كل الناس ع ليل كلّ الناس..." هذا ما غنّته فيروز في ستينيات القرن العشرين، تحديداً في عام 1963. وهذا ما قد يردّده لبنانيون كثر اليوم في عشرينيات القرن الواحد والعشرين، في حين تغرق بلادهم بالعتمة أكثر فأكثر. ومع استمرار انقطاع التيار الكهربائي وسط أزمة المازوت الأخيرة، في أكثر من منطقة وزيادة ساعات التقنين سواء من قبل الدولة أو من قبل أصحاب المولّدات الخاصة، شهد لبنان في الأيام الأخيرة تهافتاً على شراء قناديل الكاز.
وسط إقبال الناس على تلك القناديل وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي، ارتفعت أسعارها بطريقة جنونيّة. وبعدما كان قنديل الكاز يُباع لقاء ستّة آلاف ليرة لبنانية (نحو أربعة دولارات أميركية بحسب سعر الصرف الرسمي) صار ثمنه 50 ألف ليرة (نحو 33 دولاراً) ثمّ 100 ألف ليرة (نحو 66 دولاراً). يُذكر أنّ الدولار الأميركي في السوق السوداء صار يُصرف مقابل أكثر من ثمانية آلاف ليرة لبنانية. في سياق متصل، ارتفع سعر الكاز في محطات الوقود وقد انقطع من عدد منها.
وقنديل الكاز الذي عرفه الآباء والأجداد وكذلك أجيال أخرى في خلال الحرب اللبنانية، عاد اليوم وسط الأزمة الاقتصادية بعدما كان قد تحوّل إلى مجرّد تحفة فنية تراثية تزيّن الرفوف والطاولات. وفي جولة لـ"العربي الجديد" على عدد من المحال التجارية، تبيّن أنّ ارتفاع الطلب على قناديل الكاز أدّى إلى انقطاعها كلياً من بعضها، فيما حاول أصحاب بعض آخر استغلال حاجة الناس إليها وزيادة أسعارها. كذلك، ارتبط ثمن القناديل بما يسجّله في اليوم ذاته سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
"نفدت قناديل الكاز من عندنا منذ شهر ولم نتمكّن من شراء غيرها، فهي مفقودة تماماً كما هي حال الزجاجات وفتيل القناديل وكذلك شاشات اللوكس (قنديل الغاز). كنّا نستوردها من سورية لكنّنا عجزنا عن ذلك منذ أغلقت الحدود بسبب أزمة كورونا". هذا ما توضحه مسؤولة عن أحد فروع محال "دبّوس" للعطارة، مشيرة لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الطلب تزايد الأسبوع الفائت بشكل جنوني وقد اشترى كلّ شخص ثلاثة قناديل كاز أو أربعة". وتذكر المسؤولة التي فضّلت عدم الكشف عن هويّتها أنّ "ثمن القنديل ارتفع من 10 آلاف ليرة (نحو سبعة دولارات) وواصل الارتفاع تدريجياً إلى 25 ألف ليرة (نحو 16 دولاراً) قبل أن يصل أخيراً إلى 45 ألفاً (نحو 30 دولاراً) بعدما وصل الدولار الأميركي إلى ثمانية آلاف ليرة". تضيف المسؤولة نفسها: "في السابق كان المبيع قليلاً، إذ كانت قناديل الكاز تُستخدم للديكور فقط، غير أنّها باتت اليوم حاجة أساسية إلى جانب الشمع واللوكس والفوانيس المحمولة باليد (تعمل بالبطاريات)، كذلك الأمر بالنسبة إلى بابور الكاز الذي يطلبه البعض لأغراض الطهي".
من جهته، يكشف كريم وهو صاحب أحد المحال التي قصدتها "العربي الجديد"، أنّه يبيع قنديل الكاز بـ"خمسة دولارات في حال كان الدفع بالعملة الصعبة أو 45 ألف ليرة لبنانية، فأنا أراقب حركة الدولار كي أتمكّن من تأمين كميات جديدة من تلك القناديل من سورية أو من مصر". يضيف أنّ "الطلب ارتفع بشكل كبير على قناديل الكاز واللوكس ولم يبقَ لديّ إلا أربعة مع زجاجاتها". ويشير كريم إلى أنّ "المرة الأخيرة التي بعت فيها قناديل كاز كانت في عام 1995. بعدها، وزّعت الباقي منها على أصدقائي ولم يكن استخدامها يتعدّى أغراض الزينة".
ويخبر سعيد وهو صاحب محل آخر، "العربي الجديد"، أنّ "القناديل كلها اختفت فور عرضها على الرفوف. وقد بعنا آخر قنديل بـ 24 ألف ليرة لبنانية (نحو 16 دولاراً دائماً بحسب سعر الصرف الرسمي غير المطبق في السوق) وثمّة مَن اشترى أربعة أو خمسة. ولاحقاً، تلقّينا اتصالات هاتفية كثيرة من أفراد يسألون عن قناديل كاز وأكياس شمع، حتى أنّ البعض اشترى كذلك عبوات بلاستيكية لتعبئتها بالكاز". أمّا كمال وهو تاجر كان يبيع قناديل الكاز للديكور، فيقول لـ"العربي الجديد" إنّه "منذ بدأ الناس يتداولون أخبار انقطاع التيار الكهربائي وغرق لبنان في الظلام، تهافت الناس على تلك القناديل. من جهتي، بعتها وفق سعرها القديم أي ستة آلاف ليرة، من دون الدخول في لعبة السوق".
في السياق، يتحدّث نقيب الحرفيّين والمصنّعين التقليديّين في لبنان وصاحب "سوق باز الأصيل" زاهر رضوان، عن "ارتفاع في بيع قناديل الكاز منذ نحو شهرَين. لكن منذ عشرة أيام تقريباً، سجّلت حركة البيع ارتفاعاً جنونياً، وكذلك الأسعار التي وصلت إلى 50 ألف ليرة لبنانية وحتى 100 ألف ليرة للقنديل الواحد". يضيف لـ"العربي الجديد": "لم أعد قادراً اليوم على بيع القناديل بالجملة، فأعرضها بالمفرّق (التجزئة). وأحاول قدر المستطاع تفهّم أوضاع الناس، لكنّ المشكلة تكمن في صعوبة تأمين كميات جديدة كوننا نستوردها من الخارج وكون المعمل الوحيد في لبنان المتخصّص في صناعة قناديل الكاز يعجز حالياً عن ذلك لافتقاره إلى الدعم المطلوب، سواء لجهة تصنيع الزجاج أو استيراد ماكينات جديدة لإتمام عملية التصنيع. لكنّنا نسعى اليوم مع بعض الحرفيّين إلى تصنيع القناديل بالاعتماد على المتوفّر". ويلفت رضوان إلى أنّ "تهافتاً كبيراً على شراء قناديل الكاز سُجّل في خلال حرب تموز 2006. لكن منذ عام 2010، حُصر بيعها في إطار محال الحرفيات والديكور. وقد عمد حرفيّون إلى تزيينها بنقوش قبل أن يعود الطلب عليها ولو بشكل بسيط قبل نحو سبعة أشهر، نظراً إلى عدم قدرة المواطنين على دفع فاتورة الاشتراك بالمولدات الكهربائية. وأخيراً عاد التهافت عليها كأنّما نحن نعيش أيام حرب".
محمد عيد من بين المواطنين الذين اشتروا قناديل كاز وشمعاً تحسباً لأزمة كهرباء كبرى. يعبّر لـ"العربي الجديد" عن ارتياحه لأنّه تمكّن من ذلك، غير أنّه يأسف لما "يعانيه اللبناني اليوم". ويشير عيد إلى أنّه ابتاع قنديله لقاء 40 ألف ليرة (نحو 26 دولاراً)، منتقداً "الغلاء الفاحش في البلاد". ويتمنّى "العودة إلى أيام زمان عندما كانت تسود حياتنا البركة والألفة والمحبّة"، متسائلاً: "أين نحن اليوم من ذلك؟". وفي إحدى محطّات الوقود، لا يخفي صاحبها أنّهم شهدوا "تهافتاً لافتاً على مادة الكاز في الفترة الأخيرة"، لافتاً إلى أنّ "سعر صفيحة الكاز ارتفع من 35 ألف ليرة (نحو 23 دولاراً) إلى 40 ألف ليرة (نحو 26 دولاراً) ثمّ 60 ألف ليرة (نحو 40 دولاراً) قبل أن يصل أخيراً إلى نحو 105 آلاف ليرة (70 دولاراً). وقد انقطع من عدد من المحطات".