ساهمت ظروف وسياقات مختلفة في اختفاء الحكواتي من الساحات الجزائرية. لكنّ ظروفاً مغايرة دفعت به إلى العودة من جديد
لطالما لعبت الأسواق الشعبية الأسبوعية في الجزائر، والتي يحمل كلّ واحد منها اسم اليوم الذي يُعقد فيه، فيقال "سوق السبت" و"سوق الإثنين" و"سوق الثّلاثاء" و"سوق الجمعة"، دوراً حاسماً في الحفاظ على الملامح الحضارية والثقافية للجماعات الجزائرية في الجهات الأربع للبلاد، خلال فترة الاحتلال (1830 ـ 1962). ويقول الباحث سعيد جاب الخير: "لم تكن فضاءات تجارية فقط، كما توحي به كلمة السوق، بل كانت فضاءات ثقافية أيضاً، تمارس فيها مختلف التعابير الثقافية النابعة من صميم الهوية الوطنية".
سلطة الحكاية
وتأتي الحكاية في طليعة هذه التعابير الفنية، التي لم يكن الحكواتي الجزائري يلقيها في الأسواق الشعبية ليخلق حالة من الفرجة فقط، يقول جاب الخير، بل لصناعة وعي وطني في ظلّ منظومة استعمارية واستيطانية طامسة لمفردات الشخصية العربية والأمازيغية والإسلامية، إذ كان ظاهر الحكاية فرجوياً، بحسبه، لكنّ باطنها كان سياسياً. ويعطي مثالاً على ذلك بالقول: "تبدو حكاية عنترة بن شدّاد حكاية عشق بين رجل مستعبَد وامرأة حرّة، لكنّ المغزى الذي كان الجزائري يخرج به من سماعها على ألسنة الحكواتيين في الأسواق الشعبية، أنْ قم حرّر نفسك من التبعية للاحتلال الفرنسي واسترجع عبلتك، أي جزائرك".
من هنا، تقول المجلّة الجزائرية المتخصّصة في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية "إنسانيات"، إنّ الحكايات الشعبية وأساليب الحكواتي في تقديمها شفوياً في الأسواق الشعبية، كانت النواة الأولى التي بنى عليها المسرح الجزائري هويته المحلية، منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين، محاولة من روّاده مثل علّالو (1902 ـ 1992) ومحيي الدين باش طارزي (1897 ـ 1986) ورشيد القسنطيني (1887 ـ 1944)، ثمّ ولد عبد الرحمن كاكي (1934 ـ 1995) من بعدهم، لتأصيل الفنّ المسرحي الوافد من الفضاء الفرنسي الاستعماري.
حصار واختفاء
حوصر الحكواتي الجزائري، خلال ثورة التحرير (1954 ـ 1962)، من قبل سلطات الاحتلال الفرنسية، بعدما أصبحت الرسائل السياسية، التي تتضمّنها محكياته مكشوفة بفعل العملاء المحلّيين، فكانت فسحة الاستقلال ولادة جديدة له، "مع ملاحظة انزياح حكاياته نحو التنمية والبناء، بصفتها باتت تمثّل رهاناً وطنياً، إذ لم تترك فرنسا خلفها إلا الخراب"، بحسب الحكواتي والباحث حسين نذير. يضيف: "غير أن السنوات الخمس والعشرين الأخيرة شهدت تراجعاً لافتاً لظاهرة الحكواتي في الفضاء الجزائري، نظراً إلى التهديدات الإرهابية خلال تسعينيات القرن العشرين، إذ كان الفنانون عموماً مستهدفين، خصوصاً أن طبيعة مهنة الحكواتي تفرض عليه أن يكون في الواجهة الشعبية، عدا عن اختفاء الأسواق الشعبية، بفعل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، التي فرضت أنماطاً جديدة من الأسواق المغطّاة، التي تغلب عليها الروح الاستهلاكية".
اقــرأ أيضاً
عودة الحكاية
ظروف وأسباب مغايرة أدّت إلى انتعاش الحكاية والحكواتيين في الأسواق والساحات العامّة، خلال السنوات السبع الأخيرة، يجملها أحد روّاد مسرح الشارع في الجزائر، حليم زدّام، لـ "العربي الجديد"، قائلاً: "ظهرت نخبة جديدة من الحكواتيين متأثّرة بالنظرة الغربية في فنون الشارع، ولا تجد حرجاً في النّزول إلى الفضاء العام لتقديم فنونها والاسترزاق، على غرار ما يحدث في المدن الغربية، من غير أن ننسى تلاشي دواعي الخوف من الإرهاب المسلّح، وتسجيل تزايد اهتمام المؤسسات الثقافية بفنّ الحكاية".
في أسواق مدن تاجنانت شرقاً، وحمّام الضلعة وسط، وحمام بوحجر غرباً، وأدرار في أقصى الجنوب، حضرت "العربي الجديد" حلقات لحكواتيين من أجيال مختلفة، ورصدت تفاعل الجيل الجديد من الأطفال والشباب معهم. بعضهم كان يرتدي لباساً تقليدياً ويحمل دفّاً، ليفصل بالضرب عليه بين مشهد ومشهد، أو ينبّه به العابرين إلى وجوده، أو يُطالب المشوّشين بالصمت والمتابعة، أو يشير إلى أنّ وقت الدفع قد حان، وبعضهم كان يرتدي لباساً عصرياً ويحمل قبّعة أنيقة يجمع فيها النقود.
يقول الجامعي مهدي حاجّي إنّه يعدّ فيديوهات عن الواقع الجزائري وينشرها على "يوتيوب"، لافتاً إلى أنه يجد في الحكواتيين العائدين إلى الساحات والأسواق ملهماً له، خصوصاً لناحية الجرأة في مواجهة الناس والتفاعل معهم وجهاً لوجه. وأجدني أسأل نفسي: "كيف ينتابك الارتباك من الناس وهم بعيدون عنك خلف الكاميرا، بينما لا يحصل ذلك للحكواتي وهو في مواجهة مباشرة معهم؟ إذا كان هناك لقب يجدر بنا أن نطلقه على الحكواتي فهو لقب الشجاع".
ويذهب المعلّم سعيد خضراوي إلى القول إن اختفاء الحكواتي من الفضاءات الجزائرية المختلفة تزامن مع ما يُمكن أن نسمّيه الانحدار الأخلاقي والثقافي في البلاد، "فقد كان يُمثّل ضميراً حضارياً يبرمج الناس على قيم الخير والنبل والشجاعة والصدق والاجتهاد والكرم والنجدة والنصيحة والصراحة، في تكامل رائع مع أدوار الأب في البيت والإمام في المسجد والمعلّم في المدرسة". يضيف: "أفهم عودته مؤخّراً في إطار ما نلاحظه من رغبة شعبية عامّة في الخروج من حالة هذا الانحدار الأخلاقي والثقافي بالعودة إلى رحاب الثقافة والعلم والفنّ، وأرجو أن تنتبه المنظومة التربوية إلى هذا المعطى، فتفتح أبواب المدارس للحكواتيين".
سألنا العمّ عمار عمّا دفعه إلى العودة إلى ساحة الحكاية بعد اختفاء دام ربع قرن. يقول إنّ الأولى أن نسأله عن أسباب الاختفاء لا عن أسباب العودة، "تماماً كما يحصل مع ولد عاد إلى أمّه". يشرح: "الحكاية أمّي والناس الذين يستمعون إليها أولادي، وقد جرّبت في حياتي متعاً كثيرة في بلدان كثيرة، فمن ثمار الحكاية أن تمنح لك الفرصة لأن تسافر كثيراً، لكنّني لم أجد متعة تتفوّق على متعة وقوفي في ساحة ما لأروي حكاية ما. وإنني إذ أتوقّع عدد الناس الذين استفادوا ممّا حكيته، فغيّروا تفكيراً معوجّاً فيهم أو سلوكاً مستهجناً، أشعر بأنني نجحت في حياتي". يختم: "يا وليدي، الحكاية دواء".
لطالما لعبت الأسواق الشعبية الأسبوعية في الجزائر، والتي يحمل كلّ واحد منها اسم اليوم الذي يُعقد فيه، فيقال "سوق السبت" و"سوق الإثنين" و"سوق الثّلاثاء" و"سوق الجمعة"، دوراً حاسماً في الحفاظ على الملامح الحضارية والثقافية للجماعات الجزائرية في الجهات الأربع للبلاد، خلال فترة الاحتلال (1830 ـ 1962). ويقول الباحث سعيد جاب الخير: "لم تكن فضاءات تجارية فقط، كما توحي به كلمة السوق، بل كانت فضاءات ثقافية أيضاً، تمارس فيها مختلف التعابير الثقافية النابعة من صميم الهوية الوطنية".
سلطة الحكاية
وتأتي الحكاية في طليعة هذه التعابير الفنية، التي لم يكن الحكواتي الجزائري يلقيها في الأسواق الشعبية ليخلق حالة من الفرجة فقط، يقول جاب الخير، بل لصناعة وعي وطني في ظلّ منظومة استعمارية واستيطانية طامسة لمفردات الشخصية العربية والأمازيغية والإسلامية، إذ كان ظاهر الحكاية فرجوياً، بحسبه، لكنّ باطنها كان سياسياً. ويعطي مثالاً على ذلك بالقول: "تبدو حكاية عنترة بن شدّاد حكاية عشق بين رجل مستعبَد وامرأة حرّة، لكنّ المغزى الذي كان الجزائري يخرج به من سماعها على ألسنة الحكواتيين في الأسواق الشعبية، أنْ قم حرّر نفسك من التبعية للاحتلال الفرنسي واسترجع عبلتك، أي جزائرك".
من هنا، تقول المجلّة الجزائرية المتخصّصة في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية "إنسانيات"، إنّ الحكايات الشعبية وأساليب الحكواتي في تقديمها شفوياً في الأسواق الشعبية، كانت النواة الأولى التي بنى عليها المسرح الجزائري هويته المحلية، منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين، محاولة من روّاده مثل علّالو (1902 ـ 1992) ومحيي الدين باش طارزي (1897 ـ 1986) ورشيد القسنطيني (1887 ـ 1944)، ثمّ ولد عبد الرحمن كاكي (1934 ـ 1995) من بعدهم، لتأصيل الفنّ المسرحي الوافد من الفضاء الفرنسي الاستعماري.
حصار واختفاء
حوصر الحكواتي الجزائري، خلال ثورة التحرير (1954 ـ 1962)، من قبل سلطات الاحتلال الفرنسية، بعدما أصبحت الرسائل السياسية، التي تتضمّنها محكياته مكشوفة بفعل العملاء المحلّيين، فكانت فسحة الاستقلال ولادة جديدة له، "مع ملاحظة انزياح حكاياته نحو التنمية والبناء، بصفتها باتت تمثّل رهاناً وطنياً، إذ لم تترك فرنسا خلفها إلا الخراب"، بحسب الحكواتي والباحث حسين نذير. يضيف: "غير أن السنوات الخمس والعشرين الأخيرة شهدت تراجعاً لافتاً لظاهرة الحكواتي في الفضاء الجزائري، نظراً إلى التهديدات الإرهابية خلال تسعينيات القرن العشرين، إذ كان الفنانون عموماً مستهدفين، خصوصاً أن طبيعة مهنة الحكواتي تفرض عليه أن يكون في الواجهة الشعبية، عدا عن اختفاء الأسواق الشعبية، بفعل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، التي فرضت أنماطاً جديدة من الأسواق المغطّاة، التي تغلب عليها الروح الاستهلاكية".
ظروف وأسباب مغايرة أدّت إلى انتعاش الحكاية والحكواتيين في الأسواق والساحات العامّة، خلال السنوات السبع الأخيرة، يجملها أحد روّاد مسرح الشارع في الجزائر، حليم زدّام، لـ "العربي الجديد"، قائلاً: "ظهرت نخبة جديدة من الحكواتيين متأثّرة بالنظرة الغربية في فنون الشارع، ولا تجد حرجاً في النّزول إلى الفضاء العام لتقديم فنونها والاسترزاق، على غرار ما يحدث في المدن الغربية، من غير أن ننسى تلاشي دواعي الخوف من الإرهاب المسلّح، وتسجيل تزايد اهتمام المؤسسات الثقافية بفنّ الحكاية".
في أسواق مدن تاجنانت شرقاً، وحمّام الضلعة وسط، وحمام بوحجر غرباً، وأدرار في أقصى الجنوب، حضرت "العربي الجديد" حلقات لحكواتيين من أجيال مختلفة، ورصدت تفاعل الجيل الجديد من الأطفال والشباب معهم. بعضهم كان يرتدي لباساً تقليدياً ويحمل دفّاً، ليفصل بالضرب عليه بين مشهد ومشهد، أو ينبّه به العابرين إلى وجوده، أو يُطالب المشوّشين بالصمت والمتابعة، أو يشير إلى أنّ وقت الدفع قد حان، وبعضهم كان يرتدي لباساً عصرياً ويحمل قبّعة أنيقة يجمع فيها النقود.
يقول الجامعي مهدي حاجّي إنّه يعدّ فيديوهات عن الواقع الجزائري وينشرها على "يوتيوب"، لافتاً إلى أنه يجد في الحكواتيين العائدين إلى الساحات والأسواق ملهماً له، خصوصاً لناحية الجرأة في مواجهة الناس والتفاعل معهم وجهاً لوجه. وأجدني أسأل نفسي: "كيف ينتابك الارتباك من الناس وهم بعيدون عنك خلف الكاميرا، بينما لا يحصل ذلك للحكواتي وهو في مواجهة مباشرة معهم؟ إذا كان هناك لقب يجدر بنا أن نطلقه على الحكواتي فهو لقب الشجاع".
ويذهب المعلّم سعيد خضراوي إلى القول إن اختفاء الحكواتي من الفضاءات الجزائرية المختلفة تزامن مع ما يُمكن أن نسمّيه الانحدار الأخلاقي والثقافي في البلاد، "فقد كان يُمثّل ضميراً حضارياً يبرمج الناس على قيم الخير والنبل والشجاعة والصدق والاجتهاد والكرم والنجدة والنصيحة والصراحة، في تكامل رائع مع أدوار الأب في البيت والإمام في المسجد والمعلّم في المدرسة". يضيف: "أفهم عودته مؤخّراً في إطار ما نلاحظه من رغبة شعبية عامّة في الخروج من حالة هذا الانحدار الأخلاقي والثقافي بالعودة إلى رحاب الثقافة والعلم والفنّ، وأرجو أن تنتبه المنظومة التربوية إلى هذا المعطى، فتفتح أبواب المدارس للحكواتيين".
سألنا العمّ عمار عمّا دفعه إلى العودة إلى ساحة الحكاية بعد اختفاء دام ربع قرن. يقول إنّ الأولى أن نسأله عن أسباب الاختفاء لا عن أسباب العودة، "تماماً كما يحصل مع ولد عاد إلى أمّه". يشرح: "الحكاية أمّي والناس الذين يستمعون إليها أولادي، وقد جرّبت في حياتي متعاً كثيرة في بلدان كثيرة، فمن ثمار الحكاية أن تمنح لك الفرصة لأن تسافر كثيراً، لكنّني لم أجد متعة تتفوّق على متعة وقوفي في ساحة ما لأروي حكاية ما. وإنني إذ أتوقّع عدد الناس الذين استفادوا ممّا حكيته، فغيّروا تفكيراً معوجّاً فيهم أو سلوكاً مستهجناً، أشعر بأنني نجحت في حياتي". يختم: "يا وليدي، الحكاية دواء".