عوامل قوة داعش

02 نوفمبر 2014
+ الخط -

يقف المتابع لنشأة تنظيم الدولة الإسلامية، أو ما بات يعرف بداعش على تاريخين، لهما الأثر الأكبر في الدفع المعنوي الذي حصل عليه التنظيم، وحقق معه التمدد المنشود الذي تراهن عليه شعاراته المزعومة، الأول إعلان الخلافة في 28 يونيو/حزيران الماضي، والآخر في 10 يونيو/حزيران 2014 بسقوط مدينة الموصل العراقية، وكانت بمثابة لحظة فارقة لأبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، فبسقوط الموصل في أيدي أنصاره، حقق الرجل هدفاً لم يكن أبو مصعب الزرقاوي، معلمه ومؤسس تنظيم القاعدة في العراق، ليقترب منه.

إعلان قيام الخلافة الإسلامية دشّن مرحلة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها؛ حيث تمكنت قوات داعش من تغيير المعادلات الهشة في المنطقة، وتحدّت أساس وجود الدول التي نشأت من رحم الحرب العالمية الأولى، ونشرت ميراثاً من الكراهية والفوضى التي تؤثر على المنطقة كلها سنوات، بل وعقوداً.

لكن، كيف يُمكن لحركة كانت، في عام 2010 في المرحلة الأخيرة من عمرها، أن تنجح في سنوات قليلة في فرض سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي، تمتد من شمال سورية إلى شمال غرب العراق، وفي أن تتحدى، بشكل مباشر، سيطرة تنظيم القاعدة على الساحة الإسلامية المتشددة؟

ساهم عدمُ الاستقرار الناتج عن "الربيع" السوري، وتراجع انخراط الولايات المتحدة في المنطقة، وانسحاب القوات الأميركية من العراق، والأزمة الطائفية المتزايدة التي تمتد في منطقة الشرق الأوسط في تحويل اهتمام المجتمع الدولي بعيداً عن تنظيم أبو بكر البغدادي. كما سمح الضغط المحدود في العراق على التنظيم، والفجوة المتزايدة التي فرقت بين المجتمع السني العراقي والحكومة المركزية بزعامة نوري المالكي، بأن يتمكن التنظيم من العودة ببطء، لكن بثبات إلى المشهد العراقي.

كذلك ولَّدت سياسات المالكي الطائفية حالةً من الكراهية الشديدة بين القوى السنية نحو بغداد، والتي انفجرت، بكل قوتها، منذ نهاية 2012، وصاحب الاحتجاجات الضخمة التي اندلعت شلل في شمال غرب العراق، واشتباكات عديدة بين المتظاهرين وقوات الأمن، ما أدى إلى سقوط مئات الضحايا، وبدء حملة جديدة من الاعتقالات. وكما حدث في الماضي؛ استغل تنظيم الدولة الإسلامية هذه الانقسامات، ونجح في إعادة وصل الروابط القديمة مع أعضاء الجماعات المسلحة، والتي سيطر من خلال عودتها بقوة على ثلث البلاد تقريباً، فأعاد التنظيمُ وجوده في المناطق نفسها التي اقتُلِع منها بين عامي 2006 و2008.

في المقابل، اتخذ انخراط التنظيم في الأزمة السورية مساراً مختلفاً تماماً؛ حيث شكلت سورية لسنوات إحدى أهم القواعد اللوجستية للتنظيم، خصوصاً فيما يتعلق بنقل الأموال والأسلحة والمتطوعين إلى العراق. لكن، لم يتمكن تنظيم القاعدة في العراق، أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، من إنشاء أرض صلبة لعمليات شاملة للحركة في دمشق، وهذا يرجع، أيضاً، إلى العلاقات المعقدة التي تربط بين دمشق وبغداد وطهران.

لكن، تغيرت الأوضاع مع انفجار الحرب في سورية؛ حيث قرر البغدادي، بعد فهمه أهمية اكتساب أرض المعركة في سورية، والانعكاسات التي يمكن أن يعكسها ذلك على تنظيم الدولة الإسلامية، أن يرسل كتيبة من المقاتلين المتمرسين لمواجهة القوات الموالية للأسد تحت راية جبهة النصرة.

وأصبح التنظيم، في وقت قصير، أحد أهم الفاعلين في العمليات المسلحة هناك، وسمح ذلك للبغدادي أن يستفيد من التأثير المتنامي للمتطوعين، ومن الأموال والأسلحة التي تتدفق ربما من جميع أنحاء العالم. ولم يكن من شأن الخلاف الذي نشب بين محمد الجولاني (أمير جبهة النصرة) وبين البغدادي عام 2013 أن يحجم طموحات التنظيم في سورية. وقد أصبحت هذه الدولة تمثل أحد الأصول الاستراتيجية للتنظيم، فيما يتعلق بالموارد المالية والبشرية، والعمق الاستراتيجي الذي يمكن أن توفره في مواجهة النظام العراقي. وهو ما انعكس في قرار التنظيم بتغيير اسمه إلى الدولة الإسلامية.

من الأمور المهمة أيضاً، قدرة البغدادي على التعلم من الأخطاء السابقة لأسلافه، فحينما بدأ الزعيم العراقي فترة ولايته، اضطر للتعامل مع إرث مستمر من الكراهية والاستياء، وهو ما ساهم بشكل كبير في تأليب الحلفاء القدماء لتنظيم الدولة الإسلامية ضد البغدادي. وكان ذلك يمثل عقبة رئيسية أمام البغدادي الذي كان يعلم أهمية الدعم الذي يشكله السكان المحليون وزعماء القبائل بالنسبة لطموحاته.

وبهدف تحسين صورة التنظيم، أطلق البغدادي "حملة علاقات عامة" تقوم على استراتيجية متعددة الجوانب. ففي سورية، استثمر التنظيم موارد كبيرة لتوزيع المواد الغذائية التي يحتاجها السكان بشدة، كما أظهر انضباطاً لم يكن يُعرف عن غيره من الجماعات المسلحة بما في ذلك الجيش السوري الحر، والذي تعرض لانتقادات متزايدة، بسبب سلسلة من أحداث العنف والمضايقات ضد المدنيين. كما دشنت قوات البغدادي حملة تهدف إلى القضاء على الجرائم البسيطة والمنظمة، وإلى فرض سيادة القانون، وإنشاء محاكم شرعية.

كما عبر التنظيم عن سعيه إلى التعاون مع المسلحين الآخرين والقبائل المحلية، وطرح نفسه جزءاً من المقاومة المعارضة للأسد، وليس تهديداً لهم، وفتح أبوابه للمتطوعين السوريين ليعملوا مقاتلين، أو لينضموا لصفوف القادة في المستويات المتوسطة والرفيعة. لكن، بعد تدقيق شديد بشأن ولائهم وقدراتهم. وقد نجح بذلك في إذابة عنصر "تناقض الغرباء" السابق ذكره، والذي أضر بتنظيم القاعدة في العراق، عن طريق التعاون مع متمرسين، لديهم خبرات كبيرة في القتال، واكتساب معرفة عميقة بالتوازنات المحلية.

وطبق التنظيم إجراءات مماثلة في العراق، أيضاً، لكن، تدريجياً، من أجل تبديد المخاوف المرتبطة بالاعتداءات التي علقت بالذاكرة، والتي ارتكبها أعضاء داعش ضد حلفاء قدماء للتنظيم. وقد أثبت ذلك الأسلوب أهميته في اختراق البغدادي النظامين السوري والعراقي، لكنه تغير كلياً عندما قرر التنظيم التخلي عن مبدأ "الأول بين الأقران"، لصالح استراتيجية أكثر قوة تهدف إلى تعزيز السيطرة على المناطق التي تقع تحت نفوذه. وفي وقت استمرت فيه الحركة في مكافأة أصحاب الولاء لها بمنحهم الأمن وامتيازات أخرى، لم تترك مساحة للتسامح مع الانشقاق عنها.

كما أصبحت السيطرة المفروضة على المدنيين في الرقة والمعاقل الأخرى الرئيسية للتنظيم أكثر شدة وقمعاً، مع إنزال عقوبات علنية وقاسية، وهي وسيلة لزرع الرعب بين مؤيدي التنظيم وأعدائه، على السواء. وغيَّر البغدادي نهجه تماماً تجاه الجماعات المسلحة الأخرى النشطة في سورية، وتبنى منهجاً أكثر استقطاباً يقوم على مبدأ "إما معنا أو ضدنا"، ما يعني أنّ "الآخر" عدوّ يجب أن يُسحق باستخدام شتى الوسائل، وبغضّ النظر عن انتمائه للنظام أو للمعارضة، وبغض النظر عما إذا كان ذلك سوف يتسبب في مآسٍ إنسانية.

ومن أسباب النجاح الأخرى المهمة لتنظيم داعش تبني استراتيجية مرنة، وفعالة للغاية في المجالات العسكرية، والدبلوماسية والإعلامية. فقد نجحت قوات البغدادي في سورية والعراق في هزيمة قوات أكثر عدداً وأقوى تسليحاً، أيضاً، وذلك، أساساً، بسبب خبرات اكتسبها التنظيم في قتال قوات نظامية وغير نظامية في السنوات الطوال للحرب العراقية. وبعد أن أصبح التنظيم أكثر من مجرد مجموعة من القوات غير النظامية ذات فكر عسكري محدود للغاية.

لقد أظهر تنظيم البغدادي مهارات وتكتيكات دبلوماسية كبيرة، وتمكن، أحياناً، من تحقيق أهداف كثيرة من دون إطلاق رصاصة، بسبب الاتفاقيات، وتكوين التحالفات القادرة على محاصرة أعدائهم، أو بسبب القدرة على اختراق المدن التي يريدون أن يفرضوا سيطرتهم عليها، لكي يجبروا المدافعين عنها على القتال على جبهتين، إذا بدأت المعركة.

لكن، العامل الأكثر أهمية في تمدد تنظيم داعش يظل قدرته على استغلال "سمعة الشراسة" التي تصبغ مقاتليه، لبثّ الرعب في قلوب أعدائه بتبني أساليب وحشية تُظهر للعامة عبر استراتيجية إعلامية محنكة. وقد أثبتت هذه الإجراءات قوتها في إضعاف الروح المعنوية للأعداء، ما يعني أن العوامل النفسية والسياسية والفكرية تظل العوامل الأكثر أهمية في مواجهة تمدد التنظيم، وانتشار مقاتليه عسكرياً، وهو ما لم يلحظه التحالف الدولي المنشأ لمواجهته حتى الآن.

58833448-D554-45B2-8F7D-DCDD63BC35E1
58833448-D554-45B2-8F7D-DCDD63BC35E1
هشام منور (فلسطين)
هشام منور (فلسطين)